نكات أهل حمص تتحول إلى وسيلة تعبير لنقد المجتمع السوري

صاحب كتاب «أدب النكتة» يعتبر أنها دخلت في الكثير من المحظورات

TT

أجريت لحمصي عملية جراحية ناجحة، فقرر إجراءها مرة ثانية. هذا نموذج من النكات التي لاحقت أهالي مدينة حمص عبر التاريخ وأوردها كتاب عن «النكتة الحمصية» التي تحولت وسيلة تعبير مأمونة لنقد المجتمع السوري.

ويسبر الصحافي والكاتب الحمصي جورج كدر الخلفيات التاريخية للنكتة الحمصية في كتابه «أدب النكتة: بحث في جذور النكتة الحمصية»، مبينا أن صفة «الجنون» لم تكف عن ملاحقة أهل حمص منذ أيام العبادات الوثنية.

ويقول المؤلف في كتابه الذي أعاد أخيرا إصدار الطبعة الثانية منه بعد عامين على صدور طبعته الاولى، ان التندر على الحماصنة والسخرية منهم اخذ في الماضي البعيد شكل نوادر وقصص زخرت بها كتب من زارها من الرحالة والكتاب.

واشهر هؤلاء الرحالة ياقوت الحموي وابن الجوزي الذي قال عنهم انهم «بين الحمقى والمغفلين على الاطلاق».

اما الآن فيأخذ هذا التندر أشكالا مختزلة ومكثفة صارت شبكة الانترنت مجالا خصبا لتناقلها ونشرها.

ويعيد الكاتب في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية دوافع تأليفه هذا الكتاب الى ايام انتقاله للدراسة في جامعة دمشق. وقتها كما يقول «ما ان يقابلك شخص ويعرف انك من حمص حتى يسألك: ما آخر نكتة لديك عن الحماصنة».

هذا السؤال الذي لا يزال يكرر على مسامع أهل حمص دفع الكاتب للبحث والتقصي ان كان «التنكيت على الحماصنة يأتي من فراغ أم له امتدادات تاريخية؟».

وللنكتة الحمصية جذور «موغلة في القدم» تصل الى «عيد المجانين» الذي كان موجودا في العبادات القديمة واندثر، بحسب ما يستعرضه الكتاب. كما ان المؤلف يجد ان لها صلات بعبادة إله الشمس في القرن الثالث الميلادي التي كانت تتم في حمص واتسمت بمظاهر مجون وصخب حتى الهذيان، وهو ما حمل كل من يمر بحمص وقتها على الاعتقاد بان اهلها مصابون بـ«لوثة جنون».

ولم يغير في هذا «الصيت» ان من حكم روما حينذاك كانت جوليا دومنا ابنة حمص، ووالدها ابسيانوس ثاني من دعا لعبادة إله واحد هو إله الشمس بعد الفرعون المصري اخناتون.

وحتى الان يستخدم السوريون في سخريتهم إحالة دارجة على يوم الاربعاء بوصفه «عيد الحماصنة». وفي هذا السياق، يسلط كتاب «النكتة الحمصية» الضوء على روايات شعبية وتاريخية تحكي كيف تفادت حمص غزو تيمورلنك المغولي عبر استقبال اهلها الحافل له، وتظاهرهم بالجنون ليجنبوا المدينة الدمار.

ويدعو مؤلف كتاب «النكتة الحمصية» في ختام بحثه التاريخي الاجتماعي إلى إقامة مهرجان عالمي للفكاهة في مدينة حمص التي تعد أكبر المحافظات السورية مساحة، معتبرا أنه صار من الضروري أن تتحول هذه المدينة إلى «عاصمة عالمية للضحك (...) تثور على ما يسود العالم من كآبة وحروب».

وكما يورد الكتاب أن مدن الشام التي دمرها المغول كانت تتندر بهذه الحادثة بالقول «جدبها أهل حمص على تيمورلنك يوم الاربعاء فعفا عنهم» ليبقى منه مع مرور الوقت فقط ما يتعلق بربط «الجدبة» بيوم الأربعاء.

ومن القضايا التي يؤكد الكاتب تأثيرها على ظهور النكتة الحمصية تلك المتعلقة بالعصبيات القبلية والدينية.

فهو يسرد كيف كان أهل حمص «كثيري التقلب في الامور الدينية» وهو ما جعلهم في مرمى نوادر جاءت لتكرس «رؤية مسبقة» حولهم او انها انبثقت من خلفيات «تحامل» بعض الكتاب والرحالة على اهل حمص، كما يشير الكتاب الذي جاء اشبه بمرافعة مطولة عن اهل حمص.

ويعلي الكاتب السوري الساخر نبيل صالح من شأن النكتة التي تدخل في نسيج كتابته الساخرة.

وهو يعتقد ان «النكتة اكثر قدرة من الموعظة على اصلاح العالم» معتبرا ان «اهل حمص الاذكياء هم الاكثر تأليفا وتسويقا للنكات حول انفسهم». ويضيف ان ذلك يشكل «دليل قوة وثقة وصحة نفسية عند الحماصنة».

ويروي صالح كيف كان يعبر حمص في الماضي ويلاحظ عبارة على واجهة بقالة تقول «لدينا ثلج بارد».

وبعد سنوات طويلة دفعه فضوله لدخول البقالية والتأكد من «جدبنة» صاحبها كما يقول، الذي اخبره ان العبارة كتبها والده وكانت عاملا في كسب زبائن استدرجهم فضولهم لشراء ما لا يلزمهم. وينقل صالح تعليق صاحب البقالية الذي قال له: «من الجدبة برأيك: انا ام الزبون الواقف امامي».

وعلى غلاف كتاب «النكتة الحمصية» يوقع فنان الكاريكاتور السوري علي فرزات رسما لرجل حمصي باللباس التقليدي، يقف على تاج عمود تاريخي وقد اخترقت السهام كل جسده، ويبدو هذا الرجل واجما فيما لم يصب اي سهم التفاحة فوق طربوشه. ويعلق فرزات على اشتغاله هذا الرسم غلافا للكتاب بأن الرجل يجسد شخصية الحمصي «الذي يتلقى النكات برحابة صدر دائما».

ويشير الى ان الجميع يصيبون شخصية الحمصي ملحقين بها صفة «الحمق» فيما تبقى الحكمة من نكاته مثل التفاحة في الكاريكاتور «غير مصابة»، على حد تعبير فرزات في حديثه لوكالة الصحافة الفرنسية.

ويعتبر الكاتب كدر أن النكتة الحمصية تحولت لدى السوريين الى «وسيلة مأمونة لنقد الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي»، مشيرا الى انها «دخلت في الكثير من المحظورات».

ومما يورده الكاتب من نكات جمعها من المتداول في الانترنت حول الحماصنة، تلك التي يذهب فيها حمصي الى ضابط في وزارة الداخلية طالبا الترشح للانتخابات فيجيبه الضابط «هل أنت مجنون؟»، فيرد عليه الحمصي «وهل هذا شرط للترشح؟».