طيار الملك عبد العزيز وحديث الذكريات

«كان الملك يجلس إلى جانبي وأنا أقود الطائرة على ارتفاع منخفض يشاهد البر والمناظر بحثا عن الصيد

طائرة الملك عبد العزيز «دي سي 3» («الشرق الأوسط»)
TT

ليس سهلا متابعة كلام جوزيف هوسيه غرانت، لأن صوته خافت وكلماته متقطعة ويصمت لفترة، ثم يقول جملة أو جملتين، ولا عجب في هذا، فالطيار السابق يبلغ من العمر مائة سنة. ورغم ذلك فإنه تذكر بوضوح عندما وصل، في سنة 1945، إلى مطار الظهران قائدا لطائرة «دوغلاس دي سي 3» التي أهداها الرئيس فرانكلين روزفلت إلى الملك عبد العزيز آل سعود.

ففي شهر فبراير (شباط) من سنة 1945، عقد اجتماع تاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على ظهر المدمرة الحربية «كوينزي» في قناة السويس. وكان روزفلت سافر إلى يالتا لحضور اجتماع قمة الحلفاء لتحديد مصير العالم بعد هزيمة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وكان خبراء أميركيون ساعدوا على اكتشاف أول آبار نفط في السعودية، ورأى الرئيس روزفلت، وقتها، أهمية توثيق علاقته مع السعودية بسبب أهميتها النفطية والدينية والسياسية.

بعد نهاية اجتماعه مع الملك عبد العزيز قام روزفلت بإعطاء الملك كرسي العجلات الذي كان يستقله (كان روزفلت أصيب بشلل جزئي، وكان الملك أيضا كبر في السن، وصار يستعمل عصا تساعده على المشي والوقوف). ثم وعد الرئيس الملك بإرسال هدية أخرى له: طائرة.

وبعد أقل من سنة، كان غرانت، الطيار في السلاح الجوي الأميركي، هو الذي قاد الطائرة إلى الظهران.

حسب قول غرانت لـ«الشرق الأوسط»: «تحداني الملك عبد العزيز أن أساعد في تأسيس أول خطوط جوية سعودية». وكان الملك عبد العزيز أعجب بطائرة «دي سي 3»، التي كان الرئيس روزفلت أمر بتحويلها إلى طائرة مدنية قبل أن يستقلها غرانت إلى السعودية. وقال غرانت: «أحس ابن سعود بأن بلاده تقدر على أن تستفيد من التكنولوجيا الأميركية التي كانت تطورت، بمقاييس ذلك الوقت. وقال إنه لا يريد أن يكون الشخص الوحيد في السعودية الذي يستفيد من تلك التكنولوجيا الجديدة، ويستعملها ليسافر من مكان إلى مكان في ساعات قليلة. ولهذا، قال لي إنه يريد أن يكون للشعب السعودي طائرات مماثلة يتنقل بها من مكان إلى مكان خلال ساعات».

وأمر الملك عبد العزيز بشراء خمس طائرات من نفس نوع «دي سي 3» من السلاح الجوى الأميركي، وتحويلها إلى طائرات مدنية. وكانت الحرب العالمية الثانية في نهايتها، وكان فائض السلاح الجوي الأميركي من الطائرات كثيرا جدا. وحسب اتفاق بين الحكومتين السعودية والمصرية، أرسلت الطائرات الخمس إلى مصر، ومعها مجموعة من الطيارين، وأوكل إلى غرانت مهمة تدريب الطيارين والإشراف على تأسيس الخطوط الجوية السعودية.

ولم يمض وقت طويل حتى كان السعوديون يتنقلون بطائرات بين الظهران وجدة والخفجي وجبيل وأي مدينة بالقرب منها سهل ممتد.

يذكر غرانت: «بدأنا خط الطيران قبل أن نبني مطارات. في البداية، كانت الطائرات تبحث عن أي سهل ممتد لتهبط عليه، ثم تقلع منه. وكنا نقول للمسافرين ليأتوا إلى مكان معين. أو يلتقي المسافرون في سهل ممتد، وتأتي طائرة وتقلهم».

وفي رحلته مع الذكريات يشير غرانت إلى أن حب الطيران انغرس فيه منذ أن كان صبيا في ريف ولاية فلوريدا. في سنة 1928، كان عمره 18 سنة، عندما ترك منزل العائلة وسافر إلى سانت لويس، حيث التحق بمعهد لتعليم الطيران. بعد أربع سنوات، نال أول رخصة طيران، ثم نال رخصا أعلى خلال السنوات القليلة التالية. وخلال الحرب العالمية الثانية، حارب مع السلاح الجوي الأميركي. وبعد نهاية الحرب، وبعد سنواته في السعودية، صار طيارا لطائرات «707» تابعة لشركة «ترانس ورلد إيرلاينز» (تي دبليو إيه). وخلال سنواته مع هذه الشركة وثق علاقاتها مع الخطوط الجوية السعودية.

وفي سنة 1968، تقاعد من «تي دبليو إيه»، واحترف مهنة صناعة الجواهر والأختام. وقال إنه تأثر بالجواهر والأختام في السعودية. وفي صناعة «الخاتم السحري» (هذا خاتم أصله روسي، وهو عبارة عن حلقات وقطع جواهر ولآلئ صغيرة تلصق مع بعضها البعض لتكون خاتما). وقال إنه حول الخاتم السحري الروسي إلى خاتم سحري سعودي بوضع أشجار نخيل وسيوف ومناظر صحراوية.

حتى اليوم، رغم كبر سنه، يزور شركة «غرانت للخواتم» التي أسسها قبل أكثر من أربعين سنة في نفس مدينة ستامفورد ويشترك في صناعة الأختام السحرية.

والآن، يدير الشركة ابنه إدوارد الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن والده «لا يزال شابا إذا وضعنا في الاعتبار المقارنة بين عمره وصحته». وأضاف: «لن تصدق كيف كان إحساسه يوم قلده السفير السعودي وسام الملك عبد العزيز. لا يكاد يمر يوم بدون أن يتذكر الفترة التي قضاها مع الملك. ومن المفارقات أنه عمل مع الملك، ثم، بعد أكثر من ستين سنة، نال وساما باسمه».

يذكر غرانت أن الملك عبد العزيز كان يهوى الصيد في البر. وعندما جاءته أول طائرة بدأ يستعملها للانتقال من مكان إلى مكان. وقال: «كان الملك يجلس إلى جانبي وأنا أقود الطائرة على ارتفاع منخفض يشاهد البر والمناظر بحثا عن الصيد، ثم يقول لي وهو يؤشر بيده: هناك. أي هناك صيد، وأستعد للهبوط. ثم أبحث عن سهل ممتد قريب أهبط عليه». وقال: «كان لكل مكان ذكرى في ذهن الملك، ونحن نطير فوق الجزيرة العربية. هنا ولد، وهنا تربى، وهنا حارب، وهنا تزوج».

وقال: «بمناسبة الزواج، مرة سألني، عن طريق مترجم: كم زوجة لك؟ قلت له: لم أتزوج بعد (وكان عمري 36 سنة). ثم سأل مساعدي الأول: كم زوجة لك؟ وأجاب: لم أتزوج بعد. ثم سأل مساعدي الثاني: كم زوجة لك؟ وأجاب: لم أتزوج بعد. وأدار الملك رأسه يمينا ويسارا، وقال، في حسرة: هل تسمون أنفسكم رجالا؟» قبل سنتين، استقل غرانت طائرة «جامبو» تابعة للخطوط الجوية السعودية في رحلة بدون توقف من واشنطن إلى الرياض تلبية لدعوة من الخطوط الجوية السعودية.

قال: «فرق كبير بين طائرات سنة 1945 وسنة 2007. أعجبتني الطائرة العملاقة، وأعجبني اهتمام السعوديين بي، وجاء الطيار السعودي إلى مقعدي، وسلم علي، وأنا قدرت ذلك كثيرا. وأيضا، أعجبني التطور الحضاري في السعودية. المطارات الحديثة، وناطحات السحاب، والمراكز التجارية، والجامعات والمدارس».

وخلال تلك الزيارة، زار المتحف الذي به طائرة «دوغلاس» التاريخية.