بشائر حياة أفضل في أفريقيا

رغم استمرار الفقر والتوترات الأمنية في دول مثل الكونغو والصومال والسودان

عمليات إطلاق النار داخل المدارس والكنائس والمكاتب في الولايات المتحدة أثارت ذعر أفراد أسرة جيمس أودهيامبو أكثر من أعمال العنف التي اجتاحت أجزاء كبيرة من كينيا آنذاك في أعقاب الانتخابات (ا.ف.ب)
TT

في ضوء حالة الفوضى التي تعصف بالاقتصاد الأميركي، لم تعد وظيفته كسائق شاحنةٍ آمنة، وبات الخطر يتهدد حياته المتنقلة داخل ضواحي دالاس، فقرر جيمس أودهيامبو أن الوقت حان لتغيير مسار حياته.

وانطلق هذا القرار من رغبته في ضمان نمط حياة أفضل لأسرته، يتسم بقدر أقل من القلق والمخاوف، ويعتمد على عمل لعدد ساعات أقل من 14 ساعة يوميا. وعليه، قايض أودهيامبو شقته وشاحنته وآلة غسل الصحون التي يملكها مقابل العيش في مكان اعتبره أفضل نسبيا: منطقة جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية.

ووصف أودهيامبو (34 عاما) حياته الجديدة بقوله: «الآن، لم أعد عرضة لأي ضغط عصبي أو قلق. وعليك التفكير في الأمر على النحو التالي: عندما كنت في الولايات المتحدة، اقترب وزني من 300 رطل. أما الآن فيبلغ وزني نحو 200 رطل. كان أهم شيء بالنسبة إليّ مستوى جودة الحياة». وجاءت تصريحاته تلك في أثناء وجوده في منزل عائلته في هذه المدينة الواقعة غرب كينيا على امتداد شاطئ بحيرة فيكتوريا.

ورغم أن هذا الأمر يبدو متناقضا مع الصور المظلمة التي اعتادها الأميركيون عن إفريقيا، فإن دراسات صدرت مؤخرا أشارت على نحو موثق إلى عودة أعداد من المهنيين المهاجرين من الولايات المتحدة إلى بلادهم الأصلية. وقد أعربت أعداد متزايدة من العمال الصينيين والهنود عن اعتقادهم بتوافر فرص عمل ومعيشة أفضل في الوطن الأم. وأكدت المنظمات الممثلة للجاليات الأجنبية من أبناء نيجيريا وغانا وكينيا ودول إفريقية أخرى أن أعضاءها ـ الذين ينتمون في معظمهم إلى الطبقة الوسطى ـ انضموا إلى موجة الرحيل الجماعي، مفضلين المعيشة في بلاد تتسم بضعف خدمة شبكة الإنترنت بها وانقطاع التيار الكهربائي، على التعرض لضغوط الحياة في الولايات المتحدة في ظل فترة الركود الراهنة. في هذا الصدد أكد إراستوس مونغار، الذي يعمل مدير برنامج بإحدى شركات التأمين في ديلاوير ويرأس اتحاد الكينيين الذين يعيشون في المدينة، أنه «على الصعيد الشخصي، أعرف الكثير من الأفراد الذين عادوا إلى الوطن. ويضطلع الأشخاص الذين أعرفهم هنا بوظيفتين أو ثلاث فقط لتلبية احتياجاتهم، بينما في كينيا ـ رغم المشكلات الموجودة بها ـ يبدو الناس أكثر سعادة. ويبدو أنه يتوافر لديهم وقت أطول لقضائه مع الأسرة. وأكثر شعورا بالراحة والسكينة. أما هنا، إذا ما رأى جاري أني وضعت سيارتي في المكان الخاص به، ينتابه غضب بالغ».

بصورة عامة، تتوافق مسألة عودة المهاجرين إلى إفريقيا مع دراسات توحي بأنه رغم استمرار الفقر والتوترات المدنية في دول مثل الكونغو والصومال والسودان، هيمن على الكثير من أنحاء القارة خلال الفترة الأخيرة شعور بالتفاؤل نتيجة معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة. وتوصلت دراسات أجراها «مركز بيو للأبحاث» حول التوجهات العالمية إلى أن مستوى رضا الأفراد حيال مستوى جودة حياتهم يتنامى في مختلف أرجاء القارة الإفريقية، في الوقت الذي ظل فيه ثابتا أو تراجع داخل الولايات المتحدة. بالنسبة إلى أودهيامبو، تزايد شعوره بالصدمة إزاء نمط الحياة الأميركي بمرور الوقت، على نحو متوافق مع التحولات في وزنه. عندما كان شابا نحيل الجسد، انتقل أودهيامبو إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالدراسة الجامعية في ولاية نيويورك، وهي فكرة تولدت لديه نتاجا لصور الحياة الأميركية التي شاهدها في التلفزيون خلال فترة نشأته كابن لإحدى أسر الطبقة المتوسطة في كينيا. انتقل أودهيامبو إلى الولايات المتحدة في منتصف التسعينيات يملؤه شعور بإمكانية تحقيق الذات داخل الأرض التي تعد المهاجرين بحياة أفضل. بعد إنهاء حياته الجامعية انتقل إلى تكساس وعمل سائقا لشاحنة، وتنقل خلال عمله بمختلف أرجاء الولايات المتحدة لنقل قطع غيار سيارات وأجهزة تلفزيون وزجاجات صودا وحاويات كبيرة من الصين. وشعر أودهيامبو بالدهشة حيال ابتكارات مثل حامل الأكواب داخل السيارات، وتملكه إعجاب بالغ إزاء كفاءة الأجهزة الحكومية التي جعلت من الممكن استصدار رخصة سيارة خلال يوم واحد فقط. ومع تحسن الراتب الذي يتقاضاه، انتقل وزوجته إلى شقة بمجمع سكني فخم خارج دالاس يُدعى «سونوما غراند». ووصف أودهيامبو هذه الفترة بقوله: «كان الأمر رائعا حقا»، مشيرا إلى أنه كان بمنزله حوض للسباحة وحمام جاكوزي وصالة ألعاب رياضية وصور أخرى من الرفاهية لم يسبق لأحد في كينيا أن سمع بها. إلا أنه مع ازدياد أعباء العمل على كاهله، لم يعد لديه وقت كاف للتمتع بجميع سبل الرفاهية تلك، حيث اضطر أودهيامبو إلى العمل 14 ساعة يوميا كي يتمكن من سداد الإيجار الشهري لمنزله البالغ 800 دولار، وأقساط الشاحنة الجديدة طراز «فورد رينجر» التي اشتراها، والتأمين الصحي الذي عجز عن تغطية تكاليف نظارات خاصة ضرورية لتمكنه من القيادة لساعات طويلة، إضافة إلى فواتير الحاجات الأساسية الأخرى مثل أجهزة تكييف الهواء.

وأوضح أودهيامبو أنه «لم يعد بمقدوري ممارسة التدريبات الرياضية مطلقا، واقتصر طعامي على ما أتناوله في المحطات المخصصة لتوقف الشاحنات. كنت أتوجه إلى المطاعم المتوفرة بالمحطات حيث أتناول اللحم والدجاج المحمَّر، أو أتجه إلى مطاعم الوجبات السريعة. لم يكن لديّ وقت لقضائه مع بناتي. والواضح أنهم في الأفلام لا يعرضون سوى وجه واحد فحسب لأميركا». كان عمر بناته يقترب من سن الالتحاق بالمدرسة، وكان سيتعين عليه إلحاقهن بمدارس عامة حيث يجري تفحص الطلاب بأجهزة كشف عن الأجسام المعدنية التي تستخدمها العصابات الإجرامية. وقال أودهيامبو إن التقارير المنتظمة حول عمليات إطلاق النار داخل المدارس والكنائس والمكاتب أثار ذعر أفراد أسرته أكثر من أعمال العنف التي اجتاحت أجزاء كبيرة من كينيا آنذاك في أعقاب الانتخابات. وجاءت موجة الركود التي ضربت البلاد لتؤكد القرار الذي كان وزوجته يفكران بشأنه منذ فترة: أنه حان وقت الرحيل. وفي وقت سابق من هذا العام قام الزوجان بجمع أغراضهما، وشرحا لأصدقائهما الأميركيين الذين انتابتهم الدهشة حال قراراهما بالرحيل أن القتال الدائر في الكونغو على بعد آلاف الأميال من كينيا. في ذلك اليوم تنقل أودهيامبو بالسيارة حول كيسومو، وهي مدينة متوسطة الحجم تعجّ بالعاملين في الحكومة والأشخاص القائمين على شركات وأنشطة تجارية صغيرة والباعة المتجولين الذي يبيعون الصحف والأحذية المخصصة لرياضة التنس. وقاد السيارة المتواضعة التي اشتراها مقابل 1500 دولار نقدا وهي من طراز «تويوتا ستارليت» أمام أشخاص يدفعون عربات محملة بأوعية بلاستيكية معبأة بالماء.

وقال أودهيامبو، دون أن تبدو عليه أمارات اهتمام: «لقد اتسعت المدينة، لكن نظام المياه بها ينتمي إلى الحقبة الاستعمارية».

وتحرك بالسيارة أمام مضمار للغولف وحيّ راقٍ تحيطه أشجار الخيزران، وأشار إلى السيارات القليلة في الطريق موضحا: «هنا، إذا كنت تملك سيارة، تشترك فيها مع أربعة أو خمسة أفراد. لكن في الولايات المتحدة، إذا كان بمنزل ما خمسة أفراد، فإنهم يملكون خمس سيارات. تغلب هناك النزعة الفردية بشدة». اعتمادا على الأموال التي تَمكّن من ادخارها خلال فترة وجوده بالولايات المتحدة، يعتقد أودهيامبو أنه يتمتع بغطاء مالي يكفيه لمدة ستة شهور يخطط خلالها للبدء في مشروع تجاري خاص يقوم على فكرة توفير حرس سواحل خاص بالنسبة إلى بحيرة فيكتوريا. إلا أنه نظرا إلى ما اشتهر به الجهاز البيروقراطي الكيني من بطء في الحركة، فإن عملية تسجيل شركته قد تستغرق أسابيع، الأمر الذي وفر له عنصرا نادرا ما حظي به في الولايات المتحدة: وقت فراغ. ويقضي أودهيامبو بعض الوقت في زراعة أراضٍ بالقرية التي تنتمي إليها والدته، حيث يملك منزلا عائليا آخر. ويستمتع بقضاء الأمسيات في مراقبة الطائرات وهي تحوم في السماء فوق مزارع الشاي حول كيسومو استعدادا للهبوط.

وتعيش أسرته في منزل والدة زوجته المؤلَّف من طابق واحد. يذكر أنه لا توجد بطاقات ائتمان في كينيا، وعليه، تعتمد معظم أوجه الحياة على الدفع نقدا. وأكد أودهيامبو: «هنا بمقدورك العيش بقرابة خمسة دولارات يوميا». وبدلا من استخدام ماكينة غسل الصحون، تقوم أسرة أودهيامبو حاليا بغسل الصحون يدويا. وبدلا من تشغيل أجهزة تكييف الهواء، يفتحون النوافذ على مصاريعها. وبدلا من التسوق داخل محالّ البقالة في «وول ـ مارت»، تتجه زوجة أودهيامبو إلى السوق المحلية وتتفاوض حول أسعار الطماطم والبصل وغيرها. يُذكر أن الزوجة نقص وزنها هي الأخرى. وأوضح أودهيامبو في أثناء مروره أمام مدرسة ابتدائية للأطفال، حيث يسير الأطفال مرتدين زيا موحدا رمادي اللون في طريقهم إلى منازلهم، أنه «هل ترى ذلك؟ فكر في هذا الأمر! في أميركا، لا يمكنك قط السماح بعودة أطفالك بمفردهم إلى المنزل».

ولاحظ أودهيامبو أن ابنتيه اللتين تبلغان الرابعة والخامسة من عمريهما وستلتحقان بمدرسة خاصة دولية هنا، باتتا أقل حذرا تجاه الغرباء، والخروج بعيدا عن المنزل بوجه عام، وهو توجه اكتسبتاه داخل الولايات المتحدة، حسب قوله.

وقال: «عند بداية وصولنا هنا، تساءل الناس عن البنتين: لماذا لا تخرجان من المنزل وتلهوان؟»، مضيفا أن البنتين «كانتا خائفتين». بيد أنه بمرور الوقت يسيطر شعور بالارتياح تدريجيا على الأسرة. وقال أودهيامبو: «حاليا، أنتظر تسجيل شركتي. الحياة هنا تتسم بإيقاع أبطأ بكثير».

*خدمة: «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»