«يوم الخبيز» طقس منقرض أعادته الأزمات لبيوت المصريين

القمح الفاسد دفعهم للانضمام لـ«مشروع اخبز لنفسك»

مصرية أمام فرن تقليدي بإحدى المناطق السياحية بالجيزة «القرية الفرعونية» («الشرق الأوسط»)
TT

بعد أن بدا وكأنه سيغادر أرض الواقع، ليستقر في مخيلة الأدباء والشعراء، أو يغامر بأن يصبح عرضا فولكلوريا في زوايا الفنادق أو المطاعم الراقية، كي يداعب خيال السائح الغربي ويستجيب لتوقعاته التي تغذت على كتب المستشرقين على مدار قرون، عاد يوم «الخبيز» بكامل صحته وعافيته وبركاته، ليس في الريف المصري، الذي حافظ ولو قليلا على أدواته وطقوسه كما هو متوقع، ولا حتى على هامش الحضر حيث تقاوم القرى زحف العمران بأخضر باهت يطوق خاصرته الرمادية، إنما عاد ـ يوم «الخبيز» ـ إلى قلب المدن المصرية.

عماد فتحي، وهو مدرس للغة العربية، يقول «اعتدتُ أثناء أزمة رغيف الخبز أن أنشد ما قاله امرؤ القيس.. لقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، حين أخرج سالما من الطابور».

كان ذلك قبل عدة شهور حينما كان الموظف المصري يخرج في الخامسة صباحا ليخوض غمار ملحمة طوابير الخبز ليخرج من الجانب الآخر بأرغفة يصعب تناولها. ويضيف عماد «لقد مات المصريون في هذا العصر بكل الطرق الممكنة؛ في الجو، والبحر، وعلى أسفلت الشوارع، في المسارح، وعلى قضبان القطارات. لكن أكثر هذه الميتات لا معقولية كانت في طوابير العيش».

وقد دفع هذا زوجته، ماجدة نبيل، مدرسة الرسم في واحدة من مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة، أن تقرر إحياء طقوس يوم الخبيز في البيت «كان الخبيز في البيت الحل الوحيد أمامي لكي نجد خبزا صالحا للأكل، لكن بعد أن جربت الأمر وجدته ممتعا حقا، وأصبحت أتفاءل به، لكن على الرغم من ذلك عدنا من جديد نعتمد على شراء الخبز ومن حين لآخر أخبز في البيت».

كانت أزمة الخبز قد بدأت مع بوادر الأزمة المالية العالمية، مرتبطة أكثر بالتغيرات المناخية التي سادت العالم فأثَّرت على مردود الغلال، وتفاقمت مع إصرار البلدان الصناعية الكبرى على تطوير مشروعات الوقود الحيوي، حتى أطاحت موجة غلاء الأسعار بآمال المصريين في إمكان تحسن الأوضاع. فسارع المصريون إلى العودة لطقوس كادت تنقرض من حياتهم. لا فرق في ذلك بين أبناء الطبقة المتوسطة على تنوع مستوياتها المادية.

تقول أسماء السيد، التي تعمل مخرجة صحافية «بعد الشائعات العديدة عن القمح غير الصالح للاستخدام الآدمي، استجبت لدعوة شقيقتي، بشراء الطحين من السوبر ماركت، بدلا من شراء الخبز الجاهز من الأفران.. لأنني لا أضمن إن كانت تلك الأفران تستخدم طحينا غير صالح، أم من طحين سليم.. ولهذا بدأت في صنع أنواع متعددة من الخبز في البيت.. واستعنت بالإنترنت وحصلت على وصفات كثيرة جربتها ونجح بعضها».

الدكتورة آمال خليل، أستاذ العقاقير بكلية الصيدلة جامعة القاهرة، تقول: «استفزتني جدا قصاصات الجرائد التي علقها صاحب المخبز عن موجة الغلاء، وقد ظلت هذه القصاصات كما هي في مكانها رغم تراجع الأسعار، فقررت أن أخبز بنفسي. بدأت بالعيش الفينو، ثم جربت العديد من الأنواع الأخرى فاكتشفت مذاقات متنوعة وجديدة، كان أفضلها الخبز اللبناني».

حين بدأت معارك طوابير الخبز في التراجع، مخلفة عددا لا بأس به من الشهداء الذين ماتوا دون حقهم في الحصول على رغيف العيش، واجه المصريون أزمة جديدة تتعلق بجودة الأقماح المستوردة. في البداية جاءت أزمة القمح الأوكراني الذي غزا السوق المصرية فبدأت الشكاوى من عدم صلاحيته، وقد تردد حينها أن هذا النوع من الأقماح يستخدم كعلف للحيوانات، فهرع مزيد من الأسر المصرية إلى الانضمام لـ«مشروع اخبز لنفسك».

«حفنة من الطحين تكفى لخبز حوالي عشرة أرغفة من الخبز المكسيكي، الذي لا يحتاج أي وقت لتحضيره، ويضاف له ما تفضله من التوابل» هذا ما تؤكده الدكتورة آمال. «خبيز البيت أفضل من كل الوجوه، على مستوى النظافة هو مضمون، وعلى المستوى الاقتصادي موفر». انتهت سريعا أزمة القمح الأوكراني على مذبح نسبة مادة «الجلوتين» التي تحملت وحدها عيوب القمح القادم إلينا من بلاد ترفع القمح شعارا لها وتحتل صفرته نصف مساحة علمها. لكن الأزمة عادت من جديد مع القمح الروسي.

لم تؤثر شحنات القمح الروسي، الذي تسرب بعض منه إلى السوق المصرية، كما أكد بعض نواب مجلس الشعب، على عدد الأسر التي قررت أن تواجه الأزمة المالية العالمية وفساد الأنواع المستوردة من القمح بالعودة «للخبيز» في البيت. فالاستقطاب كان قد تم سلفا. ومن التحق بيوم «الخبيز» أدمن هذه العادة، التي طالما شكلت رمزا للخير في حياة المصريين، حتى إنها ترسخت في مخيلة الأدباء خاصة من أبناء الريف، فاحتلت مع عبد الحكيم قاسم في روايته «أيام الإنسان السبعة» اللوحة الثانية من لوحاته السبع بكل ما يحمل الرقم من دلالات أسطورية.

هذا بالضبط ما قاده منذ سنوات بعيدة إلى قلب القاهرة، لكن بعيدا عن بيوت الطبقة المتوسطة، في قلب الفنادق الكبرى والمطاعم الراقية، التي اعتبرته أحد تجليات الروح الشرقية التي يبحث عنها السائح عندما يحل ضيفا على مصر. «صورنا لفّت العالم» تقول (أم محمد) التي تعمل بأحد أعرق الفنادق بحي الزمالك أمام فرن من القرميد الحراري الذي لا يشبه أفران القرى لكنه يفي بالغرض. تخرج أم محمد برفقة (أم حمادة) من جزيرة الذهب في الخامسة والنصف صباحا كي تبدأ عملها في السادسة.. «لو اتجدعنا نخلص على الساعة واحدة». تعمل أم محمد منذ أكثر من عشرين عاما في هذا الفندق، كانت حينها في الثلاثين من عمرها.. «ما كنتش باشتغل قبل كده.. بس أدي حال الدنيا». في البداية وظف الفندق (أم حمدي) التي لم تستطع تحمل عبء الفندق وحيدة فجاءت بجارتها من الجزيرة لاحقا.

تعمل أم حمدي من الخامسة مساء وحتى الثانية بعد منتصف الليل، كان الأمر في البداية يزعجها. لكن بعد أن تدثرت بسنوات عمرها، التي تجاوزت الستين، لم تعد تهتم بالأمر كثيرا. أم حمدي ورفيقتها (أم عادل) هما الأكثر حظا مع الغربيين الذين يحضرون في المساء لالتقاط الصور. لكن أم محمد راضية بالجلسة الصباحية التي تجمعها من آن لآخر مع «العرب». «بييجوا الصبح يقعدوا حوالينا هنا ونتكلم وإحنا بنخبز، التانيين ما بنفهمش منهم حاجة».

قديما، في ذاكرة الريف كان «الخبيز» يوما ملحميا، يبدأ قبيل الفجر، حيث الـ«مواجير» تفيض بالخير، فتنشد السيدة القروية البسيطة.. «الحمار وداك والجمل جابك. تزيد في كعانك ـ «الماجور» ـ كما زدت في فدانك. وعلي ومحمد كيالك. وبركتك فيك وفي عيالك وفي قولة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وقبل أن يتشكل الرغيف على الـ«المطارح» بعد إحماء الفرن بأعواد الحطب والقش، تتمتم «بسم الله» تستعين به على الجن الذي أسكنته المخيلة الشعبية الأفران، مرددة كلمة «دستور» لاستئذانه في الانصراف. وبعد أن يخرج خبزا من الفرن تدعو «زد في مكانك زي ما زدت في ميزانك من شافك قنع ومن كل منك شبع، الله أكبر، الله أكبر، بركة سيدنا محمد، بركة سيدنا سليمان، الله أكبر، ببركة الأنبياء كلهم جميعا. كتبت البركة فيه ولبكرة دايما فيه، يا رب ما يقل ويزيد ويبقى الخير فوق بعضه».