نوتات ومقطوعات موسيقية وسياسة في الضفة الغربية

مع واحدة من بين جيل جديد من الفلسطينيين اندفع نحو الموسيقى الكلاسيكية

بعد دراسة لعدة سنوات استحوذت آلة الفلوت تماما على قلب ومشاعر داليا مكركر (نيويورك تايمز)
TT

رفعت الفتاة المراهقة الفلسطينية الخجولة آلة الفلوت ثم شرعت في عزف عذب الألحان منها، وبدأت منفردة في عزف فيض من الألحان التي تعود للقرن الثامن عشر بثقة مذهلة في الذات. وبعد دراسة دامت ثلاث سنوات، استحوذت آلة الفلوت تماما على قلب ومشاعر داليا مكركر، ذات الستة عشر ربيعا، وكانت تتدرب عليها بقوة، بل إنها أحيانا ما كانت تتجاهل الذهاب إلى الحمام في شقتها المزدحمة، أو تفوت مواعيد تناول الوجبات، للدرجة التي أصابت معصمها بالكثير من الآلام التي أدت إلى تقليص ساعات تدريبها اليومي إلى ساعتين يوميا. إلا أنه أخيرا في هذا الفصل، لم يكن لهذا القلق أي مكان، فقد حصلت في الغالب على جائزة سيريالية بالنسبة لها، تمثلت في العزف مع بطلها إيمانويل باهود، عازف الفلوت العالمي الكبير. وتم الالتفاف حول باهود، وأخذ هو في دراستها باهتمام. وبعد ذلك أخذ منها آلتها، وعزف عليها بعض النغمات المتعاقبة الساحرة من النوتات الموسيقية على سبيل التوضيح. ووقفت داليا فاغرة الفاه إعجابا، ثم أطلقت ضحكة رقيقة من الإعجاب. وقالت بعد ذلك عن آلة الفلوت: «إنها تأخذني إلى عالم آخر، بعيدا تماما عن هنا، إلى عالم أجمل بكثير. لأن العالم هنا ليس جميلا، إنه عالم قبيح».

وتعد داليا واحدة من بين جيل جديد من الفلسطينيين ممن اندفعوا نحو فيض متزايد من الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية الغربية على مدار السنوات العديدة الماضية في الأراضي الفلسطينية، وخاصة الضفة الغربية. لقد تعالت أصوات الأوتار الموسيقية، والنوتات الموسيقية الخاصة بباخ، ومقطوعات بيتهوفن الفردية هنا في فلسطين في غمرة التداعي الاقتصادي، والقيود التي يفرضها عليهم الاحتلال الإسرائيلي. إلا أنه ومع الكثير من المساعي القائمة في هذا الجزء من العالم، يبدو واضحا أن السعي وراء الموسيقى الكلاسيكية أمر محفوف بالتوترات، ومنها الرغبة في ألا يتم ملاحظة أي شخص وهو يتعامل مع الإسرائيليين. ومثال على ذلك، تم حظر جهد صغير يهدف إلى تدريس العزف على آلة الكمان بمخيم للاجئين في جنين ـ شمال رام الله ـ عندما نمى إلى مسامع سلطات المخيم أن الطلاب عزفوا الموسيقى للناجين من محرقة الهولوكوست في إسرائيل، منوهين إلى أن هذه الحفلة «خدمت مصالح العدو». وثمة ضعف كبير كامن في المعرفة بين الفلسطينيين إزاء ما يتعلق بالهولوكوست، إذ إنهم ينظرون إلى هذا الجزء من التاريخ على أنه كان حافزا لإنشاء دولة إسرائيل، ومن ثم فإنه مصدر لمعاناتهم. إلا أن وفاء يونس ـ مدرسة الموسيقى من عرب إسرائيل ـ سخرت وتذمرت من حقيقة هذا الأمر قائلة «لا أعتقد أن هذا يجب أن يمثل مشكلة». وفي حادث مشابه في جنين أيضا، أتت نيران مضرمة على مدرسة للموسيقى بالكامل. وعلى أساس الصعوبات الاقتصادية، يعتمد الكثير من الفلسطينيين على الآلات الموسيقية المتبرع بها، بالإضافة إلى المساعدة المتعاقبة من المدرسين الأوروبيين المتعاقبين. كما يقول المديرون إنه على اعتبار الثقافة الفلسطينية التقليدية التي تأبى الخلط بين الجنسين، يرغب الكثير من الآباء عن إرسال أطفالهم إلى المدارس الموسيقية. وليست السياسة أيضا ببعيدة عن كل هذا، فهناك بعض المدرسين الفلسطينيين ممن يعمدون إلى تقديم دروس الموسيقى على سبيل الدعاية، إذ يقولون إنها وسيلة «لمقاومة الاحتلال».

ويبدو ثمة إدراك قليل على امتداد الحدود مع إسرائيل، الذاخرة بالموهبة الموسيقية الكلاسيكية، بأن الفلسطينيين يسلكون هذا النهج الفني نفسه. وهذا ليس مستغربا في خضم الصراع القائم، إذ يكون الجهل المتبادل هائلا. وفي هذا الصدد يقول الناقد الموسيقي ناعوم بين زائيف لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية الليبرالية اليومية «نحن لا ننظر إليهم على أنهم أناس لديهم حياتهم الثقافية الخاصة». ورغم معارضة البعض، ينظر الكثير من الفلسطينيين إلى دراسة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهي جزء من النهضة الثقافية الكبيرة بالضفة الغربية، على أنها مصدر للأمل، كما أنها وسيلة اتصال بالعالم الخارجي من قلب الحصار الداخلي والحياة المراقبة، لا سيما في الوقت الذي يبدو فيه الأمل نحو إنشاء الدولة الفلسطينية أبعد عما كان. وأفاد جورج ديك، مدرس آلة المزمار الفلسطيني في بيت لحم، الذي اتجه إلى تعليم نفسه إلى حد ما «بنظرة عميقة للأمر، يهدف ذلك إلى إيضاح أننا أحياء، وأننا نستحق أن نبقى أحياء، كما أن لنا ثقافتنا».

ويعد انتشار الموسيقى الكلاسيكية متناهي الصغر بين تعداد سكان الضفة الغربية البالغ قوامهم 2.5 مليون نسمة، ومع ذلك، فإن إقامة الحفلات الموسيقية أكبر من ذلك بكثير، ففي ديسمبر (كانون الأول)، أقيم حفل موسيقي لمقطوعات عصر الباروك في الضفة الغربية. كما جذبت مسابقة للعزف على البيانو، أقيمت للفلسطينيين في شهر يناير (كانون الثاني)، 50 مشتركا صوب القدس الشرقية. وسيتم إقامة حفل «صوت القدس»، وهي غرفة مهرجان الموسيقى، بالمنطقة للعام الرابع في هذا الشهر. وبدأت مدارس الموسيقى في الازدهار، كما أنها تتجه إلى إرسال الطلاب إلى أوروبا والولايات المتحدة لدراسة الموسيقى هناك. كما تدفقت الأموال من الحكومات الأجنبية، والمؤسسات المحلية، وحتى من السلطة الفلسطينية لدعم نهضة الموسيقى من جديد. بل إنه حتى في غزة التي منيت بحرب ضروس مع إسرائيل على مدار 22 يوما وانتهت في شهر يناير (كانون الثاني)، تحاول السلطات الفلسطينية جاهدة إعادة افتتاح مدرسة موسيقى كانت قد دمرت تماما.

وتعد مؤسسة «بارنبويم ـ سعيد» أحد اللاعبين الأساسيين الساعين إلى رعاية واحتضان الموسيقى الكلاسيكية؛ وقد أسسها المايسترو عازف البيانو الشهير دانيل بارنبويم، وهو إسرائيلي من أصول أرجنتينية، كما أنه من المدافعين الشديدين عن الحقوق الفلسطينية، هذا إلى جانب إدوارد سعيد، المفكر الأميركي من أصول فلسطينية، الذي توفي عام 2003. وقد افتتحت المؤسسة مركزا في رام الله في عام 2006، وذلك أملا في توفير دروس الموسيقى بالإضافة إلى تعليمها في المدن والقرى المجاورة. جدير بالذكر أن داليا من طلاب المؤسسة. وتقطن في بيت جالا، وهي قرية على مقربة من بيت لحم، حيث تتشارك في غرفة مع أختها عازفة الكلارينت الناشئة، البالغة من العمر 11 عاما، رودي. وتعتبر داليا الابنة الكبرى ضمن عائلة مسيحية تضم 5 أبناء. ويعمل والدها سليمان كحارس أمن بجامعة بيت لحم، وتعيش الأسرة على الأموال التي يرسلها أخوان مغتربان إلى والدها. وتعلق داليا على نافذة غرفتها، المطلة على بيت لحم ومجموعة كبيرة من البيوت البيضاء، صور وملصقات العازف الشهير الفرنسي ـ السويسري باهود. ويمكن للنافذة أيضا أن تطل على حائط يكون جزءا من الجدار العازل الطويل، الذي شيدته إسرائيل ردا على الهجمات التي يشنها الفلسطينيون، إذ لقي المئات من الإسرائيليين حتفهم إثر التفجيرات الانتحارية القادمة من هذه المنطقة. وأشارت داليا إلى أنها تشعر وكأنها في «سجن»، وذلك بسبب القيود المفروضة على السفر والانتقال. وأضافت «في كل مرة ننظر فيها إلى هذا الحائط، نشعر بالاختناق».

وكان الأصدقاء في البداية يسخرون من عزفها على آلة الفلوت، موضحين أن الموسيقى ليست مسعى جادا. إلا أن بعض المدرسين اتجهوا إلى تشجيعها، وتابعت متحدثة عن الموسيقى: «لكن يتمثل أهم شيء في الشعور بأن الموسيقى تعطيني، فأنت تشعر وكأنك تطير». وتأمل داليا حاليا في أن تنال منحة دراسية من المؤسسة للدراسة في فرنسا، كما تحلم بأن تصبح مايسترو. وفي الفصل التعليمي، أخبرها باهود أن تخفف من حدة أصابعها على آلة الفلوت لتتحرر من التوتر، إذ حدثها قائلا: «أصابع رقيقة وصغيرة». وفي مقابلة لاحقة له، أوضح فيها أن داليا موهبة حقيقية. يُشار إلى أن باهود، 39 عاما، قد دعاه بارنبويم شخصيا للقدوم إلى هنا في رام الله. وإلى جانب أنشطتها، تساعد مؤسسة «بارنبويم ـ سعيد» جماعة تُطلق على نفسها «كمنجاتي»، وأسسها رمزي أبو رضوان ـ وهو فلسطيني نشأ في مخيم للاجئين، ودرس العزف على الكمان في فرنسا ـ في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002. وقال أبو رضوان إنه بدأ البرنامج بـ90 طالبا فقط، إلا أن برنامجه يضم 400 طالب الآن. ومن بين تلامذته سندس سمرن ـ ذات الاثنى عشر ربيعا. وقال عنها مدرسها بنيامين باين ـ البالغ من العمر 28 عاما من فرنسا ـ إنها من أكثر تلاميذ الكمان الموهوبين في رام الله. وكان فرع مدرسة «كمنجاتي» في جنين هو الذي تم إضرام النيران فيه حتى أجهزت عليه تماما. ولم يعلن أحد مسؤوليته عن الحادث، إلا أن الشبهات تحوم حول عدد كبير من القوات، ومنها: الإسلاميون (رغم أن السلطات الدينية أعلنت أنها باركت إنشاء هذه المدرسة)، والمحافظون الاجتماعيون، بالإضافة إلى الأناس الغيورين من النجاح الذي حققته المدرسة، علاوة على المتعاونين مع إسرائيل. وعلى الفور انتقلت الفصول التعليمية إلى الحديقة، وأعيد افتتاح مدرسة صغيرة مبنية من الحجارة في غضون أسبوعين. وفي يوم من الأيام بنهاية شهر أبريل (نيسان)، حضر أطفال حاملين آلات العود، والفلوت، والكمان. وكانت رائحة دخان الحريق ما زالت باقية في المكان رغم دهان الحوائط باللون الأبيض. وطلب المدير، إياد ستيتي، من الزائرين البقاء بالداخل، تفاديا للفت أنظار المدارس المعادية. وتقوم مدرسة «الكمنجاتي» بترميم منزل بالمدينة ليصبح مقرا أكبر من سابقه. واتضح كيف يمكن للأمور أن تتعقد مع الظهور الثالث للموسيقى الكلاسيكية، والمتمثل في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى. وبدأ المعهد الملحق بجامعة «بير زيت» في منتصف التسعينات، وانضم إليه أكثر من 650 طالبا، وضم برامج لمنهج النظرية، وتدريب الأذن، وتاريخ الموسيقى، والأداء، بالإضافة إلى برنامج للموسيقى العربية. وأضمر هذا المعهد طموحات ترمي إلى رعاية الأوركسترا الوطني الفلسطيني. وأنشأ المعهد مبنى حديثا من الخرسانة والزجاج في بيت لحم بضعف حجمه هناك ليكون مقرا له.ورغم أنه كان يحمل اسم سعيد، إلا أن هذا المعهد ومؤسسة «بارنبويم ـ سعيد» لم يعودا يعملان مع بعضهما البعض. وعلى هذا الأساس انهارت أحلام تكوين أوركسترا من الشباب على نحو مشترك.

وقال مدير عام المعهد، سهيل خوري، كانت مؤسسة «بارنبويم ـ سعيد» تستخلص أفضل الموسيقيين لحلم أوركسترا الشباب من عرب إسرائيل الذي ترعاه، والمسمى «ويست إيسترن ديفان» (أو الديوان الغربي الشرقي). واتهم بارنبويم بدعم الاحتلال الإسرائيلي بصورة حقيقية، وذلك عبر عدم استغلال الأوركسترا لمعارضة السياسات الإسرائيلية. وقال «تتجلى الحقيقة الكامنة على الأرض في احتلال إسرائيل لفلسطين، وإذا ما كانت هناك قدم شخص على رقبة الآخر، فلا يمكنك الغناء معهم». ورد بارنبويم على هذا الاتهام موضحا أن الأوركسترا «ليست مشروعا سياسيا»، كما أنها لا تصدق أو تقر بالاحتلال الإسرائيلي. واستطرد أن الموسيقى تعد أفضل سلاح يملكه الفلسطينيون «ضد العنف والبشاعة». وتابع: «إذا ما ذهبت لتلقي درس في الكمان لمدة ساعة، ففي هذه الساعة أنت لست على احتكاك بالعنف أو الاحتلال». وبالقرب من رام الله، وبعد ساعات من الفصل التعليمي الذي تحضره داليا، عزف باهود في حفلة موسيقية على انفراد في مدرسة للبنين. وامتزج أذان الصلاة القادم من مسجد قريب بصوت النغمات والألحان النابعة من آلة الفلوت الذهبية المتألقة خاصته. وجلست داليا في الصف الثالث، بجوار مدرسها الأساسي الألماني إيليا كاراديوف ـ البالغ من العمر 40 عاما. وكان الاثنان يحنيان رأسيهما احتراما وتقديرا بعد كل مقطوعة موسيقية يعزفها باهود. وبنهاية الحفل، أهدت داليا باقة من الورود إلى باهود. وقالت إن آلة الفلوت الخاصة بها تعتبر مثل الصديق الذي لا يمكن أن تحيى بدونه. إلا أنها مستعارة من موسيقي هاو في قريتها. وستعيدها عندما تمتلك واحدة خاصة بها، وتتخرج في الجامعة. وقالت: «بهذه الطريقة يمكنني أن أمنح الفرصة إلى شخص آخر».

* خدمة نيويورك تايمز