لبنانيون يطوون صفحة الغربة بسبب أبنائهم

خوفاً من فقدان الهوية والترعرع خارج المحيط

TT

على الملأ، صدحت حنجرة فيروز ذات يوم لتعلن باعتزاز «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك». أما وديع الصافي فبرقة، تتمايل على إيقاع العتب والترجي، نادى: «يا مسافرين ارجعوا تتعمروا لبنان». هاتان الأغنيتان وسواهما، أبكت الكثير من اللبنانيين في بلاد الاغتراب، لكن تأثيرها لم يتعد حدود الانفعال العاطفي أو، في أفضل الأحوال، إيقاظها لمجرد حلم مبتور بالعودة. فلم تنجح الكلمات رغم عمق معانيها في إقناع من غادروا. لكن ما عجزت عنه الأغنيات، استطاع تحقيقه الأبناء وإن بغير عمد. ذلك أن الكثير من المغتربين اللبنانيين يحزمون أمتعتهم ويعودون أدراجهم بعد أعوام طويلة من الغربة، بعدما يخال بعضهم أن البلاد التي لاذوا إليها صارت هي موطنهم ومستقبلهم. لكن، تفاديا للتعميم، لا بد من الإشارة إلى أن الكثيرين يخططون منذ مغادرتهم لبنان للعودة إليه بعد بضعة أعوام.

إنما اللافت أن عددا وفيرا من المغتربين يعودون حرصا منهم على «مستقبل» أطفالهم. فما أن يقترب الأبناء والبنات من سن المراهقة حتى تظهر بوادر القلق على ملامح الأهل. فهم يخشون أن ينخرط أبناؤهم وبناتهم في المجتمعات، لاسيما الغربية ويندمجوا فيها «بشكل يبعدهم عن البيئة اللبنانية المتمسكة بالقيم العائلية والتقاليد اللبنانية»، كما قالت رينيه التي فضلت أن تعود إلى لبنان بعدما أمضت أكثر من 10 سنوات في بريطانيا. وتقول: «لم أشأ أن يكبر أولادي بعيدا عن عائلتنا الكبيرة أي أجدادهم وجداتهم. لذلك بعد مناقشات، توصلت وزوجي إلى نوع من تسوية. أعود مع أطفالي الأربعة ويزورنا بانتظام كل شهر أو شهرين، على أن يمضي الصيف معنا، لأنه لم يستطع أن يتخلى عن كل ما أسسه هناك». أما نور عبد الهادي فتقر بأنه كان لابنتها دور أساسي في قرارها عندما عادت من فرنسا، من دون أن تخفي أن عوامل عدة تضافرت لحضها على اتخاذ هذا القرار. وقالت: «وجدت نفسي أمام خيارين، إما أن أبقى في فرنسا وأعود وحيدة بعد سنوات، لأن أولادي لن يقبلوا بالعودة نهائيا إلى لبنان إذا كبروا هناك، وإما أن أحزم أمتعتي وأعود وأتخلى، في المقابل، عن الكثير من التسهيلات المتوافرة في فرنسا، وأهمها مجانية التعليم الجامعي».

وفيما تؤكد نور أن عودتها إلى لبنان كانت من باب «العودة إلى كنف العائلة وجوها وحميميتها، حتى يشعر الطفل بأنه جزء من عائلة صغيرة ويدرك أن استقلاله لا يعني التخلي عن والديه وعائلته» تعترف بأنها «في البداية، أعجبت بالتربية الغربية التي تنمي حس الاستقلال لدى الطفل، لكن لاحقا لاحظت المبالغة في هذا الأمر والتركيز الصارم على هذا المفهوم. وأدركت أن الطفل يحتاج إلى إحاطته بالعطف والحنان في أولى سنواته، بدلا من القسوة عليه لنعلمه أن يكون مستقلا. ففي إحدى المرات، طلبت إدارة المدرسة من جميع الأهالي تزويد أطفالهم كل ما يلزم ليبيتوا يومين متتاليين في المدرسة، من دون أن تسمح بزيارتهم للاطمئنان عليهم. ولم تتجاوز طفلتي آنذاك سنتها الرابعة. لكن قرار العودة اتخذته حين بلغت العاشرة، وفوجئت أنها واجهت صعابا كبيرة في التأقلم. فاضطررت لاصطحابها بعد 3 سنوات في زيارة لفرنسا لتزور الأماكن التي نشأت فيها علها تشفى من الحنين».

أما سليم وهو والد لفتاتين، فتختلف تجربته لناحية أن ابنته الكبيرة والتي كانت في العاشرة حين عاد إلى لبنان، لم تواجه مشكلات في التأقلم مع البيئة اللبنانية، لكنه يؤكد أن «قرار العودة كان يرتكز على أي مستقبل أريد لابنتي». وقال: «عدت من بريطانيا حيث هاجرت بسبب الظروف المضطربة في لبنان، وقررت العودة حين اقتربت ابنتي الكبرى من سن المراهقة. ذلك أنني لم أشأ أن تكبر في مجتمع وبيئة تختلفان عني. كنت من البداية أشعر بأنه مهما طالت هجرتي، فإن موطني لبنان وإليه سأعود لأني أريد عائلة لبنانية الهوية. لبنانية الطباع والتقاليد والتراث والعادات. فلمَ أخاطر وأترك ابنتي تكبران في بيئة، قد تكون ممتازة، لكنها تبقى مجرد محطة في حياتنا. فكانت العودة السبيل الوحيد لتكسبا الهوية اللبنانية».

في المقابل، وجدت ميشلين والدة لثلاثة فتيان، حلا مختلفا لـ«الحفاظ على الهوية اللبنانية» رغم أنها أسست عائلتها في الولايات المتحدة. فهي المغتربة منذ أكثر من 15 عاما، تحرص كل صيف على «توضيب الأمتعة وإحضار أبنائي الثلاثة الذين بلغوا مرحلة المراهقة، ليمضوا عطلة الصيف في لبنان وتحديدا في القرية. وهذه العادة جعلتهم يقيمون صداقات مع الكثير من الأقرباء، حتى أن ابني الكبير قال لي مرة ممازحا: لن أتزوج إلا من إحدى فتيات القرية. وأطمئن أكثر حين أتفحص قوائم أصدقائهم على موقع فايسبوك وأرى أنهم بغالبيتهم لبنانيون».

في المقابل، تبدي جوليا غصة ذلك أن الظروف «لم تتح لي أن أزور لبنان قبل أن يبلغ ابني الوحيد عامه السادس عشر. وحين جئنا، لم يستطع أن يمضي أكثر من أسبوع لشعوره بالشوق إلى لندن حيث هاجرنا حين كان في الرابعة». أما أحمد الأيوبي، وهو طبيب أجبر على الهجرة إلى كندا بسبب الحرب، فوجد نفسه عالقا هناك بعدما بلغ سن التقاعد وكبر أبناؤه في المهجر و«بات من المستحيل أن يعودوا لأنهم أسسوا حياتهم وتزوجوا واندمجوا في المجتمع الكندي. والأسوأ أن كلا منهم يعيش في مناطق بعيدة تحتاج إلى نحو ساعة في الطائرة وأنا وزوجتي غير قادرين على العودة إلى لبنان لنعيش وحيدين».