صناعة الفخار في البلقان تلقى رواجا في بداية الألفية الثالثة

المطاعم تستخدمها كأوان.. وتزيد من أسعار أطعمتها مع إقبال الزبائن عليها

أواني الطبخ وتقديم الطعام هي الأكثر رواجا («الشرق الأوسط»)
TT

تلقى صناعة الفخار في البلقان رواجا هذه الأيام، فيما يمثل هجرة جماعية إلى الطبيعة، وحنينا مزدوجا للتاريخ وللماضي، حيث لم تكن الأمراض الصحية المعاصرة والتي تدوي في مختلف أنحاء العالم، معروفة أو على الأقل سائدة بهذا الشكل المرعب. ولا يتعلق الأمر بفئة معينة من الناس، أو نطاق سيسيولوجي محدود، وإنما شمل مختلف الطبقات الاجتماعية، حتى أن الكثير من المطاعم أصبحت تستخدم أواني الفخار في الطهي وفي تقديم الطعام لزبائنها مما زاد من حرفائها. وإن كان البعض يرجع ذلك للمذاق الفريد للطعام الذي يطهى على أواني الفخار، فإن آخرين وجدوا أنفسهم ولدوافع اقتصادية ممزوجة بالمحاكاة، غارقين في «دباديب» الفخار، من دون التنازل عن أي من الأساليب الفندقية الراهنة.

وتعود صناعة الفخار إلى عصور غارقة في القدم، يحددها البعض بالعصر الحجري الثاني وتحديدا إلى نحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد، ففي الأناضول عثر على أوان فخارية تعود إلى 6500 قبل الميلاد، وفي بعض المتاحف بأميركا اللاتينية هناك فخار يعود إلى 3200 سنة قبل الميلاد، وفي مصر إلى 2000 قبل الميلاد وفي بلاد الرافدين إلى 1500 قبل الميلاد وفي اليونان إلى 1000 قبل الميلاد وفي منطقة المتوسط ولا سيما المغرب العربي إلى 323 قبل الميلاد، ثم شمال المتوسط وخاصة فرنسا في القرن الأول الميلادي. وقد احتفل بالفخار والخزف في التاريخ العربي الإسلامي حيث شهد تطورا كبيرا، وأخذ بعدا متحفيا لتزيين أفنية المنازل إلى جانب استخدامه اليومي في حفظ المياه والطهي وتقديم الطعام والمشروبات.

وقالت صاحبة محل لبيع الأواني الفخارية، عثمانة موهوفيتش لـ«الشرق الأوسط» إن «الفخار من أول ما عرف الإنسان وربما يؤسس لبداية الحضارة الإنسانية، وكان أحد أنواع التجارة الدولية حتى القرن العاشر الميلادي، وقد عثر على سفن قديمة غارقة في عمق البحر من بين حمولتها الفخار».

وذكرت بأنها تمارس وعائلتها تجارة الفخار منذ 5 سنوات بعد أن حولوا المحل من مقهى فمطعم إلى محل لبيع الفخار وبعض المنسوجات التقليدية واللوحات. وقالت إن سكان السواحل والجزر في كرواتيا وسلوفينيا وإيطاليا والكثير من الألمان والفرنسيين والاستراليين أكثر الزبائن إقبالا على شراء المنتوجات الفخارية. وعن أسباب عودة الناس، لا سيما أولئك الذين قطعوا شوطا كبيرا على درب (الحداثة) قالت «الناس لم يعودوا يلهثون وراء كل جديد كما هو في القرن العشرين والقرنين الثامن والتاسع عشر، وإنما يبحثون عن الأفضل بقطع النظر عما إذا كان منتجا حديثا أو قديما» وتابعت «للطعام الذي يطهى في أواني الفخار والماء الذي يوضع في أواني الفخار طعم خاص لا يضاهى إضافة لكونه صحيا أكثر». بيد أن أواني الفخار، لا سيما تلك التي تستخدم للطهي، لا يمكن استخدامها سوى على أفران الحطب والكهرباء، فهي لا تقوى على مقاومة أفران الغاز. وعما إذا كان هناك من يشتري أواني الفخار لمجرد الذكرى قالت «هناك من يشتريها للذكرى ولكن الكثير منهم يؤكد أنه سيستخدمها للطهي وتقديم الطعام» وأعربت عثمانة عن رضاها لمردود المحل من بيع الفخار، وأنها ستواصل مع زوجها الذي يمتلك سيارة تاكسي وابنها وابنتها الطالبة، مزاولة هذه التجارة التي تلقى رواجا مضطردا في منطقة البلقان. ومن بين الأواني المعروضة «طناجر» الطبخ، وقلال لحفظ المياه، وأكواز (جمع كوز) وأوان فخارية توضع في أحواض السمك المنزلية، وحصالات (جمع حصالة نقود) وصحون وأوان صغيرة لوضع التوابل، ومزهريات فخارية، وأباريق وأواني الطبخ التي توضع داخل الأفران لإنضاج اللحم وغيره. أما الأسعار فتتراوح بين 7 و25 يورو للقطعة الواحدة. وقالت عثمانة إن «الكثير من الناس يستخدمون أواني الفخار للطبخ في الهواء الطلق عند نهاية الأسبوع فذلك يرسم لوحة متناسقة مع الطبيعة المحيطة». ويؤكد الكثيرون أن الطهي على أواني الفخار يأخذ وقتا أطول مقارنة بأواني الألمنيوم أو النحاس، لكنه صحي أكثر.

وقال الحرفي الحاج حسني (65 عاما) لـ«الشرق الأوسط» إنه بدأ تعلم حرفة (صناعة) الفخار منذ نعومة أظافره وتحديدا منذ كان عمره 7 سنوات، وأنه تعلم الحرفة من جده الذي كان بدوره حرفيا مشهورا في منطقة البلقان «كنت مولعا بهذه المهنة منذ الصغر بينما كان أقراني يحبون اللعب، وكنت ملاصقا لجدي رحمه الله أراقب تفاصيل عمله وحذقت المهنة بتفاصيلها». وعما إذا كان العمل في السابق أفضل أجاب «كلا، العمل الآن أفضل، الناس كان لديهم عقد من كل ما يمت للماضي بصلة، أما اليوم فالعودة للجذور تدعمها المصلحة الصحية والرومانطقية الاجتماعية التي كانت تعتبر تخلفا حتى وقت قريب». وعبر بدوره عن رضاه على عائدات عمله فمن خلاله ذهب للحج، وبنى فيلا واشترى عدة بقرات «لدي زبائن من عدة مدن وهم بدورهم يبيعون هذا المنتج ويسوقونه على نطاق واسع» وحول أسباب عدم فتحه محلات خاصة لبيع الفخار قال «أنا راض عن عملي وأترك الآخرين يسترزقون بدورهم» وعن أكثر أنواع الفخار رواجا ذكر أن «أواني الطبخ وتقديم الطعام هي الأكثر رواجا، ولدي طلبات بهذا الخصوص لم أنته بعد من صناعتها» وبخصوص مستقبل الصناعة أكد الحاج حسني أن «صناعة الفخار أول ما عرف الإنسان من صناعة ولا أتخيل أن الناس سيستغنون عن هذا الإرث الذي يثبت باستمرار أنهم في حاجة أكيدة إليه سواء كتحف أو أوان حاضرة في الحياة اليومية» وأفاد بأن لديه ابن مضى من عمره 30 عاما سيواصل المشوار من بعده. وعن مستوى الإنتاج أشار إلى أنه يصنع ما يربو على 100 قطعة شهريا، وأنه لا يستطيع أحيانا الوفاء بالطلبات في موعدها لكثرتها. وقال الحاج حسني إنه يذهب يوميا للغابة لإحضار الطين اللازم، لأن صناعة الفخار تحتاج طينا من خامة معينة، «أذهب للغابة لإحضار الطين الصالح لصناعة الفخار فليست كل أرض صالحة لهذا الغرض» وفي حالة وجود طلبات كبيرة يستعين الحاج حسني بأخيه لإحضار الطين لإعداد الطلب وأحيانا يوسع الدائرة، كما قال لتشمل حرفيين (جمع حرفي بكسر الحاء) آخرين. المطاعم البلقانية والتي تحولت للفخار، زادت من أسعار الأطعمة لديها، بعد إقبال الزبائن على هذا النوع من الخدمات.

وقالت صاحبة مطعم «أناتش كوتشا» الذي يطبخ الأطعمة ويقدمها في أواني الفخار، طيبة فيتشيتش (44 عاما) لـ«الشرق الأوسط»: «مطعمنا يعمل منذ 20 عاما، ولكننا تحولنا لإعداد الأطعمة وتقديمها في أواني الفخار منذ 3 سنوات، ولذلك قمنا بزيادة الأسعار، فالمكان هنا ليس ككل مكان، فقد كان متحفا للتراث، وهو مكان عتيق يعود لأكثر من 500 عام، والطهي على أواني الفخار يأخذ وقتا» وتابعت «الطهي وتقديم الطعام في أواني الفخار ظل سائدا في البيوت الكبيرة، ولم تعد الحداثة تعني الجديد وإنما الصحيح والأجدى والأكثر نفعا» وتحتوي قائمة الأسعار في بعض المطاعم على إشارة تفيد بأن الطبخ معد في أواني الفخار، الأمر الذي يساهم في شعبية هذه المطاعم التي مزجت التقاليد بالحداثة والأصالة بالمعاصرة فكونت لوحة فريدة من الانسجام بين الأشواق وما يكمن في الأعماق. وقال باحث الاجتماع الدكتور فريد نوركيتش لـ«الشرق الأوسط»: «العودة للطبيعة ليس تنكرا للتكنولوجيا الحديثة، وإنما اعتراف وتأكيد أن ما هو حديث ليس بالضرورة هو الأفضل. فهناك نقد شديد للكثير من المظاهر المعاصرة في الطهي والبناء واللباس (الضيق والكعب العالي) وللكثير من المشروبات التي تلقى رواجا على أنها صيحات التطور والتقدم.. وللطرق الحديثة في طرق تصفيف وصبغ الشعر وتغيير الملامح والتي ثبت ضررها الصحي وانعكاساتها السلبية اجتماعيا واقتصاديا».