موسكو: صحافي «الحوادث والجريمة» يواجه الموت في كل يوم

أقاربه ينتظرون نشر نعيه بسبب انتقاداته لفساد الشرطة وأنشطة عصابات مافيا

سيرجي كانيف: إن كنت تريد وظيفة آمنة، فلتبحث عن عمل داخل مكتبة («نيويورك تايمز»)
TT

بعد الهجوم الأخير على سيرجي كانيف ومحاولة خنقه باستخدام سلك كهربائي، قام رئيس تحريره بزيارته واقترح عليه بكياسة أن يأخذ إجازة لمدة ستة أشهر عن الكتابة حول الجرائم، في أميركا. يضحك كانيف كلما تذكر هذا الأمر كما لو كان أحدهم نصحه بأن يمارس الرقص، ويضيف قائلا: «سأموت من الملل» دون عمل. تخصص كانيف في الكتابة عن الفساد داخل الشرطة والجريمة المنظمة، ولذا فإنه يضايق شخصيات بارزة، ويتوقع أن يقتل بسبب ذلك. يئست صديقته الأخيرة منه، ويتوسل إليه أبواه كي يترك عمله، مشيرين إلى أن الخوف على سلامته يتعبهم كثيرا. ويقول كانيف، الذي يبلغ من العمر 46 عاما: «أتفهم وجهة نظرهم، ولكن لا إجابة لدي على ذلك».

كان العام الحالي عاما قاسيا في روسيا بالنسبة للصحافيين الذين يبحثون عن الفضائح ولناشطي حقوق الإنسان الذين يجرون تحقيقات حول من يشغلون المناصب العامة والتنظيمات المتطرفة. وخلال العام الماضي، وثّقت لجنة حماية الصحافيين مقتل ثلاثة صحافيين و19 اعتداء لها صلة بالعمل الصحافي. ووثقت منظمة العفو الدولية مقتل ناشط حقوقي و16 هجوما خلال نفس الفترة. ومن الملاحظ أنه في حقبة فلاديمير بوتين تشهد صفوف الأشخاص الذين يرغبون في محاسبة ذوي النفوذ تراجعا مضطردا. ويجري تهميش عملهم بصورة متزايدة، حتى لا يعلم معظم الروس ما يكشفون من فساد أو انتهاكات لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن الأغلبية لا تحمّل الحكومة مسؤولية الهجمات، فإنهم يقولون إن عجزها عن التحقيق وتوقيع العقوبات على الجناة يترك انطباعا خطيرا. ويعد كانيف المثال الأكثر وضوحا على حرية الصحافة. يتميز كانيف بالجرأة ويكتسب وجهه حمرة عند الغضب ويدخن كثيرا، ويمكن أن تحسبه رجل شرطة روسيا أو قاطع طريق، حيث يرتدي «معطفا رياضيا ذا لون أرجواني غامقا ويحمل تليفونا جوالا ضخما»، حسب ما يقول ديمتري موراتوف، رئيس التحرير في «نوفايا غازيتا» التي يعمل فيها كانيف صحافيا حرا. ويعمل كانيف أيضا محررا لصالح برنامج «جبهة الدفاع»، وهو برنامج عن عالم الجريمة تعرضه القناة الثالثة بموسكو. لو كان الاتحاد السوفياتي قد بقي، ربما كان استمر كانيف في العمل كمقدم أغانٍ على جهاز دي جي يعبر عن معارضته بتشغيل أغاني دونا سومر، التي حظرها الحزب الشيوعي. ولكن، أتى طوفان التسعينات على عمله، وتطوع للعمل في الصباح الباكر لصالح برنامج تلفزيوني إخباري. وبحلول 2005، أصبحت المادة التي يتناولها تكثر من انتقادها للشرطة، وفقد وظيفته في «إن تي في»، وهي إحدى الشبكات القومية الثلاث في روسيا. وبهذه الطريقة انتهى به المطاف بالكتابة لـ«نوفايا غازيتا» وهي صحيفة معروفة بأمرين: هجومها الشديد على الحكومة الروسية، وعدد العاملين فيها الذين تم قتلهم. ويقول ياليا لاتينينا، وهو كاتب عمود في الصحيفة: «الشيء الأكثر خطورة في الوقت الحالي ليس هو انتقاد السلطات ولكن انتقاد الأشخاص الذين يمكنهم قتلك. والناس الذين يكتب عنهم كانيف يمكنهم أن يقتلوا، وهذه هي المشكلة».

يشار إلى أنه في يناير (كانون الثاني) اقتحم رجل مسلح مكتب الصحيفة وأطلق النار على ستانيسلاف ماركيلوف، محامي الصحيفة، وصحافية شابة تدعى أناستسيسا بابوروفا، كانت تبلغ من العمر 25 عاما. وبهذا مات خمسة موظفين بسبب العنف أو في ظروف غامضة منذ 2000، وكان هو الحادث الأول منذ العثور على صحافية التحقيقات آنا بوليتكوفسكايا مقتولة بطلق ناري داخل مصعد مسكنها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2006. وضع رئيس التحرير موراتوف اثنين من صحافييه تحت حراسة مسلحة وبدأ في تطبيق سياسة طبقا لها يتم نشر المعلومات الحساسة لدى أي صحافي على الفور، وهو ما يقلل المكاسب التي يمكن أن تتحقق من قتلهم. ومن جانبه، لا يكترث كانيف لفكرة توفير حماية للصحافيين. ويقول: «إن كنت تريد وظيفة آمنة، فلتبحث عن عمل داخل مكتبة». وفي أحد الأيام مؤخرا، صعد على سلم خلف أحد المتاجر، وقاده أحدهم إلى مكتب حيث روى رجل أعمال بدا عليه التعب تفاصيل خطف ابنه. مسح كانيف حاجبيه بمنديل ولم يدون أية ملاحظات. وبعد ساعات، جاء زائر يرتدي سترة سوداء من وزارة الداخلية إلى مكتب الصحيفة. وبينما كان يصطحب الرجل إلى الخارج، كان كانيف يشعر بالسرور كثيرا بما سمعه. علم كانيف بالمخاطر التي يتضمنها عمله من البداية، عندما قام ستة بلطجية من زلينوغراد بربطه في كرسي بسلك كهربائي ووضعوا حديدا ساخنا على صدره، وطلبوا أن يسلم لهم شريط فيديو. ومنذ ذلك الحين، زادت طموحاته. سهلت مقالات عن الفساد داخل الشرطة الطريق أمام عمل تحقيق عن مقتل بوليتكوفسكايا وعصابة خطف في أوروغواي، وهي القضية التي أشار فيها إلى أدوار لعملاء أمنيين حكوميين سابقين وحاليين. وزادت المخاطر، مع إحساسه بالوظيفة التي يقوم بها. ويقول كانيف: «نحاول الوصول إلى مواطنينا وأن نقول: انظروا، هذا يكفي دعونا نستعيد بلدنا، هذا هو المكان الذي ولدنا فيه، أليس كذلك؟».

وفي أغسطس (آب) الماضي، كان كانيف في طريقه عائدا إلى شقته، وتسلل رجلان من خلفه، وقام أحدهم بسحب حقيبته، التي كانت مملوءة بوثائق تخص تنفيذ القانون، وقام الآخر بوضع سلك كهربائي حول رقبته، وتركوه يسقط في بئر السلم. سمعت أمه، نينا، عن ذلك من خلال تقرير تلفزيوني، وهو ما زاد من حزنها على ابنها الوحيد، فقد قضت أعواما تحاول إقناعه أن العمل الذي يقوم به لا يستحق التضحية. وتقول السيدة كانيفا، وهي مدرسة متقاعدة كانت تعمل في حضانة، تبلغ حاليا من العمر 71 عاما: «إنه أمر غير مفيد، كما لو كنت تضرب رأسك في حائط صخري، يمكن أن تضرب كما تحب، وإذا كنت محظوظا سوف تصاب بجروح وحسب، وإلا سوف تصاب بالشلل أو تفقد حياتك. كيف يعالج هذا الظلم؟».

وتضيف الأم: «يقول لي: أماه، إذا لم أقم أنا بذلك، فمن سوف يقوم به؟ فأرد عليه أنه عندما يكون المرء وحده في الميدان فهو ليس بمحارب».

وتنبع إجابة الصحافي كانيف الغاضبة من تاريخ العائلة، فعندما كانت نينا كانيفا في الرابعة من عمرها، ألقي القبض على والدها كعدو للشعب، ولم تسمع عنه بعد ذلك أبدا. وتخفي السيدة كانيفا هذه القصة ولا تحب أن تحكيها. ويقول كانيف: «أقول لها: كنت تخشين الحديث طوال حياتك ولا أحب أن أعيش بهذه الطريقة».

*خدمة «نيويورك تايمز»