المصريون يجدون السكينة على شط النيل

الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: إذا التزم الناس بالنظام يموتون

يلجأ المصريون إلى استغلال أية مساحات عامة متوافرة أمامهم ليحولوها إلى مساحة خاصة بهم («نيويورك تايمز»)
TT

بعد يوم طويل شاق في المكتب، جلس أحمد نادي، وابن عمه أحمد مجدي يحدقان في الظلام باتجاه مياه نهر النيل الهادرة، ويتنفسان النسيم العليل. وعلت وجهيهما ابتسامة أثناء مراقبتهما الصبية الصغار يبيعون عبوات المناديل الورقية، في الوقت الذي عمل شاب على صنع أكواب الشاي وتقديمها لرواد المنطقة على صينية فضية، وتنقل الأطفال بالدراجات في أرجاء المكان. وقال نادي، 27 عاما، محاسب «خرجنا للتو من العمل، وينتابنا شعور بالإجهاد والضغط العصبي». ثم توقف عن الحديث برهة حتى تمر شاحنات بجواره. وبدا وكأنه لا يرى ممرات الطريق الثمانية الموجودة أمامه، ويضم كل منها إما سيارة أو شاحنة أو سيارة شحن صغيرة تقاتل في طريقها للمرور عبر كوبري المنيب، حيث ارتفعت أصوات أبواق السيارات وزئير المحركات. ويعد هذا الكوبري الأكبر من نوعه على النيل. وهو كوبري مرتفع يرزح تحت وطأة كم هائل من السيارات. لكن في الليل، تحول رصيفا المشاة الجانبيان إلى ما يشبه المهرجان، حيث يعج المكان بمقاعد بلاستيكية تجلس عليها أسر كثيرة، في الوقت الذي ماج المكان بباعة الشاي والفشار والبالونات. بوجه عام، تتسم القاهرة بازدحامها السكاني، وتمتلئ بالكثير من المنازل والمباني اللاصقة لبعضها البعض، إلى جانب ازدحام المرور وندرة الأماكن المفتوحة. ورغم توافر بعض المتنزهات، فإنها محاطة بأسوار ويجب دفع رسوم مالية للدخول إليها. وعليه، يلجأ المصريون إلى استغلال أية مساحات عامة متوافرة أمامهم ليحولوها إلى مساحة خاصة بهم. وتعتبر الجسور من الأماكن المفضلة بالنسبة لهم، لكن ذلك لا يمنع إقبالهم على أي مساحة مفتوحة يقابلونها.

من جهته، قال نادي، بصوت مرتفع يكاد يصل إلى الصراخ كي يعلو صوته على الضجيج المحيط به «إنه أسلوب عام للحياة. يعمد الناس إلى خلق مساحات لأنفسهم. ربما يرى آخرون أن هذه المساحات ضيقة، لكنهم يجدون السعادة بها». وقال أحد الدبلوماسيين الأميركيين إنه خلص إلى أن البلاد «مستقرة على نحو تام». من بين التفسيرات التي يطرحها البعض لذلك أن الشعب المصري كسول إلى حد ما. لكن هناك تفسير آخر يرى أنه في ظل البيئة الصعبة الموجودة في مصر، يدرك المصريون جيدا كيف يسيرون شؤونهم. ويعرف المصريون كيفية تجاهل ما لا يمكنهم تغييره ومحاولة الابتكار على الأصعدة التي يمكنهم التحرك بها. على سبيل المثال، يقودون السيارات في الاتجاه المعاكس، ولا يأبهون بإشارات المرور، ولا يلتزمون بصفوف الانتظار، ويعمدون بانتظام إلى الالتفاف حول بيروقراطية حكومية جامدة. ومن خلال ذلك، لا يتعمد المصريون التصرف بوقاحة، وإنما يقاتلون من أجل البقاء. من الناحية الفنية، يحظر القانون الجلوس فوق الجسور. لكن تلك هي مصر، فمن يأبه هنا بالأمور الفنية؟ من ناحيته، علق الشاعر عبد الرحمن الأبنودي على الأمر بقوله «يلتزم الناس في كل مكان، حتى في الخليج، بالقواعد. لكن هنا، إذا التزم الناس بالنظام يموتون. إنه نوع من الهرب. إنهم يرون أن القيود التي يجابهونها في حياتهم اليومية بالفعل كافية». في الليل، تتحول مياه النيل إلى اللون الأسود، موفرة لسكان هذه المدينة المزدحمة فرصتهم الوحيدة في النظر إلى مساحة مفتوحة، مما يعد بمثابة مصدر قوة روحية إلى أولئك الذين تدور حياتهم في إطار حدود صارمة وشقق ضيقة وأجور هزيلة وفرص ضئيلة. على سبيل المثال، قالت نور الهدى محمد، 18 عاما، خلال وصفها حياتها في منطقة الوراق، وهو حي فقير مكدس بالسكان «بالطبع، أشعر بالاختناق». وقد تخرجت في المدرسة الثانوية، لكنها لا تعمل وتأمل في أن تتزوج. وتقضي وقتها على كوبري روض الفرج. وقالت نور الهدى، مرتدية غطاء للشعر تتنوع ألوانه بين الأحمر والذهبي، بينما تفوح منها رائحة عطر وردي «إنه مكان لا يوجد به الكثير من الناس، ويمكنك التقاط أنفاسك فيه» وقامت والدتها بفرش ملاءة على جانب الطريق وتوزيع بعض الأطعمة الخفيفة على ابنتها وأصدقائها. وقالت والدتها «إنه مكان هادئ وغير مزدحم، وبه هواء نظيف». أما شقيقها الأصغر، محمد، 11 عاما، فشرح أنه يحب الجلوس فوق الكوبري «لأنه المكان الذي تقع به حوادث السيارات». وفي منتصف الكوبري، وقف رجل وابنه يمرحان بطائرة ورقية. من ناحية أخرى، أعرب عبد الحليم إبراهيم عبد الحليم، بروفسير العمارة بجامعة القاهرة، عن دهشته من تمكن سكان القاهرة ليس فقط من تحمل الحياة بها، وإنما أيضا من العثور على مصادر للسعادة. وأضاف «الشعب المصري قادر على البقاء. إن هذا الأمر متغلغل في الثقافة المصرية. إنها ثقافة تمكنت من البقاء لآلاف السنين». في فترة ماضية، تميزت القاهرة بالكثير من المساحات العامة. لكن ذلك كان منذ فترة بعيدة، قبل أن يحدث انفجار سكاني وتفر الكثير من الأسر الميسورة إلى تجمعات سكنية معزولة ومحاطة بأسوار خارج قلب العاصمة. أما من بقوا بالمدينة فيتميزون بقدرتهم على المضي قدما وتسيير حياتهم. في اتجاه الجنوب، تتحرك الأسر على الكورنيش المطل على النيل. وتتنزه مجموعات من عائلات وشباب على امتداد ضفة النهر، محاولين استنشاق الهواء بعيدا عن الطرق المكدسة بالسيارات. يزداد الازدحام على كوبري قصر النيل، أشهر وأجمل الكباري الممتدة على النيل. ويشتهر على نحو خاص بتماثيل الأسود التي تقع على طرفيه. وفي بعض الليالي، يزداد الازدحام على نحو بالغ يدفع الناس إلى السير في طريق السيارات. من ناحيته، أوضح زين العابدين عبد العزيز، الذي اصطحب أسرته إلى الكوبري للاحتفال باجتياز ابنته مرحلة التعليم الابتدائي «يأتي الناس إلى هنا للهروب من المناخ العام الذي يعيشون فيه. وحتى لو توافر لديهم قليل من المال بحوزتهم، تبقى لديهم حاجة للهروب». أما كوبري المنيب، فيختلف الحال به، ذلك أن قضاء الوقت على جانبيه أشبه بالجلوس على جانب طريق سريع مزدحم. على الكوبري، دفعت فتاة صغيرة لا تتجاوز الـ12 من عمرها عربة محملة بالحلوى وأكياس البطاطس المقلية لبيعها. وقام شاب ببيع الترمس، إحدى الأكلات الخفيفة المفضلة لدى المصريين. وعلقت مروة حسن، التي توقفت على الكوبري برفقة أسرتها «لولا السيارات، كان المكان سيصبح قطعة من الجنة». ورغم أن النيل من بين أكبر مناطق الجذب في القاهرة، فإنه ليس الوحيد. على مسافة بعيدة إلى الجنوب منه، فتح محمد عز الدين مقعدا صغيرا مصنوعا من قماش القنب واستند بظهره إلى نخلة، وذلك داخل دائرة من العشب الأخضر في تقاطع للطرق مزدحم بالسيارات. داخل الدائرة، كان الأطفال يعدون وراء كرة كبيرة صفراء، بينما دخل المراهقون مصارعة فوق العشب الأخضر. من جهتهم، حاول ضباط المرور الإبقاء على تحرك السيارات، وعمدوا إلى إطلاق الصفارات، بينما انطلقت أصوات أبواق السيارات. أمسك عز الدين في يد بالقرآن، بينما حمل في اليد الأخرى سبحة. وبدا متحيرا إزاء كيف لا يرى أي شخص أن هذه الدائرة بعشبها الأخضر تمثل ملاذا مثاليا. وقال «أحب الناس. وأعتقد أنه من المذهل أن يتمكنوا من الرضا بحياتهم كما هي، وأن يشعروا بالبهجة».

* شارك في التغطية من القاهرة منى النجار

* «نيويورك تايمز»