«فقاعة» رجاء بن عمار تنفجر صرخة «حرية» في وسط بيروت

البائسات التواقات إلى الحرية في كل زاوية

المرأة العجوز تقوم من مخاضها وتتأبط طفلها مذعورة بين الجموع (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

مئات الفضوليين تجمّعوا مساء أول من أمس الخميس، أمام المبنى الذي بات يعرف باسم «البيضة»،أو «الدوم»، وسط بيروت، يسبقهم حدسهم إلى أن الفنانة التونسية المعروفة رجاء بن عمار، جاءتهم بما لا يفوت. لم يطل الانتظار، إلا وفتحت البوابة الحديدية الكبرى لهذا المبنى الشهير والمهجور، الذي بقي وحده دون ترميم، شاهدا على ذكريات الحرب. ولج المنتظرون المكان، تملأهم الرهبة، ليصطدموا بخيوط عنكبوتية نصبتها لهم المخرجة على المدخل قبل أن يساقوا إلى ركن صغير جلست فيه سيدة شقراء مدللة بملابس للسهرة، تصورهم بكاميرتها الصغيرة، في ما يصورها رجل تلفّح بعباءة سوبرمانية. بقي الجمهور الواقف يحدّق في المرأة المغناج، إلى أن صدح صوت تبين أنه لعروس معلقة بقربنا على الأسياخ الحديدية لأطلال المبنى. غنّت العروس ذات الفستان الشيفوني الأبيض الطويل بصوتها الحزين، وهي متدلية من علٍ، ونثرت ورودها على الحاضرين، قبل أن يقودنا المصور السوبرماني في صالة فسيحة يصعب تحديد أرجائها بسبب الظلام المخيم عليها، وسط أضواء الشموع. نسمع أصوات نساء تتردد من أرجاء المكان، كل واحدة تنادي الأخرى باسمها، وتسألها: أين أنتِ؟، وكأن القاطنات هنا ضائعات في تيه عارم. فجأة تسطع بقعة ضوء، تقف في وسطها المسرحية رجاء بن عمار، تغني، وترقص، وتتحدث بجنون عن امرأة أميركية تقبّل حبيبها، بشفاهها السليكونية دون خوف، وعن الهيفاوات النحيفات اللواتي نقلدهن إلى حدّ الذهاب إلى المستشفيات. نكمل طريقنا بمعونة المصور السوبرماني الذي يقود المئات، وهو يجول بنا في المكان المظلم إلا من بعض بقع ضوء نجد تحتها نساء معذبات. في زاوية جلست امرأة مكتومة الصوت هي الأخرى، تحرّك قدرها دون توقف، وكأنها تجمدت أمامه. ويغطي على هذا كله عويل امرأة على أرجوحة معلقة فوق هوّة سحيقة أضرمت فيها النار. تصرخ المرأة وتبكي، وكأنما هي في جحيم مقيم. أرجوحة من نوع آخر، هي قطعة طويلة خشبية جلست على أحد طرفيها امرأة سبعينية، بشعر طويل أبيض، تتأبط طفلها الذي وُلد للتو، وعلى الطرف الآخر.. أكداس لصحف قديمة، تحاول أن تتوازن معها. يحاول المنظمون أن يقودوا المئات المتجولين في هذه الصالة الباطونية الفسيحة في الأرجاء كلها، حيث البائسات التواقات إلى الحرية في كل زاوية.

وأنت تتواجد في «البيضة»، هذا المكان الذي اختارته الفنانة التونسية رجاء بن عمار لتقديم عرضها الموقّع بالشراكة مع زوجها المنصف الصايم، تنتابك مشاعر غريبة.. فما كان يعرف قبل الحرب الأهلية «بسيتي سنتر»، وضم صالة سينما مبتكرة ومحلات تجارية، صار أطلالا، لها حوائط مهدمة من هنا، وقضبان حديدية تنفر من هناك، لكن روعة الهندسة ما تزال تطغى على كل ما عداها، ويحاول العرض أن يستغلها بشتى السبل، وهو يشق طريقه ولو وسط الركام.. فها هو المصور السوبرماني يقود الجموع الغفيرة إلى الطابق الأول، حيث امرأة زنجية عالقة في فخ عنكبوتي لعين، تحاول اجتيازه، فإذا بها تصل إلى قفص شفاف تقف فيه كالمجنونة، وقد سجنت بين جدرانه، تحاول أن تتسلق الحبل المتدلي من أعلى، لكنها سرعان ما تسقط مغشيا عليها. نترك المرأة الخائرة إلى الطابق الثاني، حيث بدأت الشاشة الضخمة تعرض صورا لمخلوق يتحرك ببطء شديد. تحار الجموع في ما تفعل، وقد وجدت نفسها داخل القاعة التي تأخذ شكل بيضة، وفيها مدرجات. وبشيء من التلقائية، جلس الحضور، فإذا بشخص يخرج عليهم متقلبا، هائما، صارخا.. وسيدة كانت نائمة على طاولة صغيرة تدور حول نفسها تهب من سباتها، وتحاول أن تشد الحبلين الطويلين اللذين يربطانها بطرفي الصالة الضخمة. لا تعرف إنْ كانت المرأة، ذات القدمين اللتين أدمتاهما الحبال، ترقص أم تتألم، لكن شد الحبال يسعفها في أن تتحرك دورانا حول نفسها، بقدر محدود، بعد أن تبذل جهدا هائلا، وقوفا أو جلوسا، أو انبطاحا على بطنها. تطلع علينا رجاء بن عمار ثانية بميكروفونها، وبصرخاتها وأغنياتها، تستدعي الموج والبحار وأصوات الطائرات الهادرة، بحثا عن هذه الحرية التي كرسّت لها هذا التجهيز المبتكر، الذي يجمع بين العرض المسرحي المفكك، والغناء والرقص والموسيقى. فلا ينتهي الحفل الجحيمي، قبل أن يصدح صوت البيانو الموجود في الصالة، وقد تجمع الممثلون حوله، وأخذت إحدى الممثلات تطلق لحنجرتها العنان وهي تجول بين الحضور، بغناء حزين يستدعي الشجون. العرض جميل وموجع، لكنه شديد السوداوية، وقد قدم لليلة واحدة فقط، في إطار أنشطة «ربيع بيروت» التي تحييها «مؤسسة سمير قصير»على مدار أسبوع، وتسعى لأن تجعل منها تظاهرة سنوية تستقطب الشبان حول أعمال فنية متنوعة. والعرض الذي حمل اسم «الفقاعة»، وقدمته رجاء بن عمار، كان يحتاج إلى شيء من العناية، لا سيما في ما يتعلق بالنص الذي استخدمته الممثلة لربط قصص النساء المتألمات اللواتي جعلونا نجول عليهن في مبنى «سيتي سنتر»، دون أن تستثني الرجال من جهنمها، إلا أن بن عمار بدت مفتونة بالفرجة، وقد استطاعت أن تدهش، وتلعب على وتر المفاجأة حتى اللحظة الأخيرة، وتترك جمهورها يخرج من قلب البيضة تواقا لمزيد من المغامرات المسرحية المجنونة.