ثالوث «الفقر والبطالة والعشوائيات»

في تقرير للتنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة تحتل مصر المركز رقم 119 من بين 174 دولة في العالم في نسبة الفقر

أبناء عشش الصفيح يقفون دائما على حافة خطر مسكون بالانفجار («الشرق الأوسط»)
TT

لم تتردد لحظة قبل أن تخبره بالهدوء نفسه الذي استقبلته به.. «ابنتي لم تتزوج بعد». ابتلع خالد عبد الحميد الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان دهشته وفضوله ولم يعلق. وحين عاودها بحجة السؤال عن أفضل طريقة لتمضية الوقت في هذه المنطقة ـ رغم تحذيرات جهات رسمية من خطورة التجول هناك بعد غروب الشمس ـ فتحت له قلبها وقد أطلعته على السبب.. «أنت الشخص الوحيد الذي لم يسأل عن الأمر برغم غرابته».

القصة التي يرويها خالد عبد الحميد بكثير من الشجن بدأت عندما كان يجمع البيانات اللازمة في إطار جهود «المركز المصري لحق السكن» من أجل تخصيص وحدات سكنية لأهالي منطقة «عشش» زرزارة بمحافظة بورسعيد. وكانت هذه السيدة ضمن من قابلهم في يومه الأول. وحين سألها عما إذا كان والد حفيدها يعيش معهم في الغرفة ذاتها؟ أجابته.. «ابنتي لم تتزوج بعد». ما بقي يمكن تخمينه ببساطة. فقد كانت ابنتها واحدة من اللواتي يظهرن كرقم في خانة حالات الاغتصاب التي يشهد الواقع المصري انتشارها كظاهرة في السنوات الأخيرة، مرة كدليل على تردي الأوضاع الاجتماعية والأمنية وأخرى ضمن مناقشات فقهية عن جواز أو عدم جواز عمليات إجهاض «الأنثى» المغتصبة.

وقد صكت هذه السيدة حينها جملة عن حفيدها المجهول الأب، لم يتمكن خالد من تجاوزها وبقيت لسعتها في قلبه إلى اليوم.. قالت: «دا مش ابن حرام.. دا ابن العشش الصفيح».

أبناء العشش الصفيح.. صنف من البشر يسكن منطقة رمادية، يقفون دائما على حافة خطر مسكون بالانفجار. إنهم ببساطة، أشقياء الزمن التعيس. أبناء العشش الصفيح أصحاب ثالوث «الفقر والبطالة والعشوائيات» الذي رسمه الخبراء وعلماء الاجتماع ومراكز البحوث في محاولاتهم فهم أسباب انتشار ظاهرة العنف التي اجتاحت المجتمع المصري مؤخرا، رغم وجود العديد من الأسباب الأخرى المفترضة وراء تفشي الظاهرة.

ومن ثم، رصدت دراسة حديثة أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وقوع 788 جريمة عنف في الفترة من يناير حتى ديسمبر من العام الماضي، بمعدل 1.6 جريمة يوميا. ووفق الدراسة بلغ عدد جرائم القتل التي كان دافعها الفقر 392 جريمة. كما رصدت الدراسة ما سمته «تحولات في المستوى التعليمي لمرتكب الجرائم» إذ تبين أن 10% من مرتكبيها حاصلون على مؤهلات تعليمية عالية، في حين بلغت نسبة مرتكبي الجرائم من الحاصلين على مؤهلات فوق المتوسطة 11% وكانت النسبة لحملة المؤهلات المتوسطة 20%، فيما بلغت نسبة الأميين 59% من مرتكبي الجرائم.

وأشارت دراسة أخرى أجراها المركز نفسه حول «العلاقة بين جرائم العنف والفقر والعشوائيات» إلى أنه لا رابط بين الفقر أو سكنى العشوائيات وبين جرائم العنف، مشيرة إلى أن الصورة الذهنية لدى المجتمع والمتمثلة في الربط بين الفقر وجرائم العنف لم تعد دقيقه بسبب التحولات التي شهدها المجتمع المصري مؤخرا. مؤكدة أن اتساع النطاق الجغرافي للعنف في مصر يوضح عدم اقتصاره على المناطق العشوائية بل تجاوزها للمناطق الراقية.

وذهبت الدراسة في تحليلها لأسباب انتشار ظاهرة العنف إلى ما وصفته بـ«الأسباب المجتمعية والنفسية» و«ضعف الحياة السياسية وعدم وجود قنوات حقيقية للمشاركة»، معتبرة أن شيوع قيم مجتمعية تعلي من شأن القوة، خاصة المادية، يساهم في تفشى ثقافة العنف، كما أن عدم تحقيق الذات والشعور بالتهميش يؤديان إلى النتيجة نفسها. وهو ما يحدث كذلك بسبب ضعف الحياة السياسية وعدم وجود قنوات حقيقية للمشاركة، وكذلك عدم قدرة المؤسسات السياسية والأحزاب والنقابات على دمج واستيعاب طاقات المواطنين خاصة الشباب منهم.

ولأن السينما المصرية كفت عن تأمل الواقع واكتفت بنقله إلى الشاشة الفضية، أصبح طبيعيا أن يكون البطل في أفلامها الأخيرة هو الدم المراق والعنف. وهناك قائمة طويلة من الأفلام في هذا السياق، منها ثلاثة هذا الموسم: «إبراهيم الأبيض»، «دكان شحاتة»، «بدل فاقد». فمنذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي برز العنف في العديد من الأفلام، وظل يمثل ذروة الحدث، وكصيغة لانتقام طبقة من شريحة اجتماعية أفرزها زمن الانفتاح، نذكر منها أفلام: «كتيبة الإعدام»، «حب في الزنزانة»، «الغول». لكن تحولا جوهريا طرأ على الواقع المصري في السنوات الأخيرة وانتقل إلى السينما فبرز العنف كحالة عامة، ومفردة من مفردات السلوك الاجتماعي والإنساني، وأصبح نجم الشباك بخاصة بعد انحسار الموجة الكوميدية التي أغرقت السينما في نهاية التسعينات، ومن أبرزها فيلما «إسماعيلية رايح جاي» و«صعيدي في الجامعة الأميركية». وبحسب آخر تقرير للتنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة تحتل مصر المركز رقم 119 من بين 174 دوله في العالم في تراتبية الفقر، وهو ترتيب يعتبره محللون سياسيون واقتصاديون دلالة على «الواقع الاقتصادي الأليم الذي يعيشه المصريون». وأوضح التقرير أن نسبة الفقر في مصر وصلت إلى 29.3% وأن نحو 23% من السكان لا يحصلون على الطعام الأساسي، لافتا إلى أن أغنى 20% من السكان يحصلون على 43.6% من الدخل القومي بينما أفقر 20% لا يحصلون إلا على 8.6% من الدخل القومي، مما يعكس اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

وترجع الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس أسباب انتشار ظاهرة العنف إلى ما وصفته بـ«الزيادة السكانية العشوائية». وقالت لـ« الشرق الأوسط»: إن زيادة عدد السكان مع انتشار الفقر وتزايد معدلات البطالة تعد أسبابا رئيسية لتفشي ثقافة العنف. إذ يتحول الفعل الإجرامي إلى ما يشبه حالة انتقام من المجتمع، نتيجة شعور الفرد بعدم حصوله على الحد الأدنى من حقوقه الأساسية.

وفيما يتعلق بالعنف ضد المرأة، رصدت المجموعة النسائية، وهي مؤسسه حقوقية تعنى بالدفاع عن حقوق المرأة، وقوع 19 جريمة ضد المرأة خلال شهر مايو (أيار) الماضي فقط، بينها 9 جرائم قتل، ومحاولتا اغتصاب، وجريمتا ضرب أفضى إلى الموت، و5 جرائم شرف، وجريمة واحدة شروع في القتل.

وقالت الدراسة التي رصدت هذه الجرائم في الفترة من 1 إلى 31 مايو إن الجرائم الـ19 ارتكب 13 منها رجال، في حين ارتكبت المرأة ثلاث جرائم فقط، ونفذت جريمة قتل واحدة بمشاركة بين رجل وامرأة. في حين لم يستدل على الجاني في جريمتين، لافتة إلى أن الزوج كان هو الجاني في 7 جرائم، والأخ في جريمتين والأب والأم في جريمة واحدة. وكان الجاني من الأقارب من الدرجة الثانية في جريمتين، بينما كان الجاني لا تربطه أي صله بالضحية في أربع جرائم.

وقالت دراسة حديثه أعدها الدكتور أحمد زايد عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة حول «العنف بين طلاب المدارس» إن 30% من طلاب المدارس مارسوا أشد أنواع العنف في صوره المختلفة، لافتة إلى وجود 3 أنواع للعنف هي: أثناء الذهاب إلى المدرسة، وداخل المدرسة، وأثناء العودة إلى المنازل، وكشفت الدراسة أن 80% من صور العنف المدرسي تكون فردية تقع بين تلميذين، وأن 64.4% تقع بين مجموعة من الأصدقاء، بينما يتطور الأمر إلى مواجهات بين مجموعات من مدارس مختلفة في 21.2% من الحالات.