تاريخ قطارات أوروبا

نالت شهرة في روايات الجاسوسية كمكان للدسائس وخطط المتطرفين

TT

كحال العديد من قصص الجواسيس في الروايات والحقيقة، يبدأ فيلم «باك غراوند تو أنغر» في محطة قطارات.

وعلى رصيف إحدى محطات القطارات في نورمبيرغ بألمانيا وقف صحافي حر بمفرده ينتظر أحد القطارات الليلية، وهو يدسّ يديه في جيب معطفه وقد ضم كتفيه هربا من برد رياح شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، ليأتي بعد ذلك روسي خائف يدفع إليه المال لتهريب وثائق عبر الحدود النمساوية ثم تتجه الحبكة للدخول في دروب الخيانة.

كانت الرواية التي كتبها إريك إمبلر جانبا من ضرب أدبي ساد أوروبا بين الحروب. وقد شكلت القطارات في فيلم «كلوك أند داغر» أحد الدوافع، كما صور فيلم «قطار إسطنبول» لغراهام غريني الموت والجاسوسية على متن قطار «أورينتال إكسبريس». وفي فيلم جون بوتشان «الخطوات التسع والثلاثون» المأخوذ عن فيلم ألفريد هتشكوك، يراوغ البطل ـ الذي لفّق له عملاء أجانب تهمة القتل ـ الشرطة في قطار في اسكتلندا.

وبعد انقضاء ستة عقود على ذلك، تحول المشهد، وقامت أوروبا بإزالة حدودها الداخلية، وتحولت من قتال النازيين أو الشيوعيين إلى استخدام وكالات التجسس والأقمار الصناعية ووسائل التنصت لتعقب الإرهابيين الإسلاميين ممن يحيكون مؤامراتهم على الإنترنت.

بيد أن أحد تلك الأشياء لم يتغير، فالقطارات والمحطات والأحياء الشجاعة التي تحيط بها كانت دائما مسرح الخطر. ففي عام 1995 قُتل مسافرو قطارات في باريس في تفجيرات إرهابية لحقتها تفجيرات قطارات مدريد بعد ذلك بتسع سنوات. وفي صباح أحد الأيام الضبابية في توسكانيا في عام 2003 جرى تبادل لإطلاق الرصاص خلال عملية تفتيش للشرطة على الهوية في إحدى قمرات الدرجة الثانية مع أحد مقاتلي الألوية الحمراء وكاتبة بيان ينادي بتحالف يساري إسلامي مقاتل. وقد مات رفيقها وشرطي.

وعلى متن قطار متجه إلى باريس قرر مخبر مغربي بلجيكي القيام بمناورة تنطوي على خطورة بعد مغادرته محطة «غير دي ميدي» في العاصمة البلجيكية. فقد خشي من خيانة الضابط المنوط به، ولذا سلم نفسه للشرطة وقال إنه جاسوس. وبعد أن تصالح معه مسؤولو المخابرات في فرنسا وبلجيكا أرسلوه في مهمة سرية إلى معسكرات القاعدة في أفغانستان، وذلك حسبما ذكر الجاسوس الذي أطلق على نفسه لقب عمر ناصري في كتابه «داخل الجهاد».

يستخدم الجواسيس والمهربون وأفراد العصابات الأخرى القطارات في غرب أوروبا لأنها سريعة ورخيصة وتتمتع بالكفاءة. على عكس المطارات يوفر السفر عبر القطارات سرية الهوية، فالسلطات عادة لا تدقق في أوراق الهوية أو تفتش الحقائب أو تستخدم أجهزة كشف المعادن بصورة منتظمة.

علاوة على ذلك فإن محطات القطارات تقع عادة في مناطق الطبقة العاملة من المهاجرين حيث يجد المجرمون المأوى والسلاح والوثائق المزورة وأدوات التجارة الأخرى. وتعد محطة «غير دي ميدي» الواقعة في الطرف الجنوبي من وسط العاصمة بروكسل مثالا جيدا على ذلك. فلا يزال عدد قليل من المحلات الإسبانية والإيطالية من هجرات سابقة قائما، لكن الصبغة الحالية للحي اليوم مغربية وتركية.

ويعد شارع «موريس ليمونير» الذي تصطف على جانبيه محلات الزهور وواجهات المباني العتيقة هو الأبرز في ذلك، فملصقات الحملات الانتخابية للمرشحين المحللين الذين تبدأ أسماؤهم بأسماء مثل «أحمد» و«فاطمة» تزين سوق السمك ومحلات اللحوم التي تبيع اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية، ومتجر للموسيقى تبعث منه أنغام الصحراء، وهي توليفة تشكك في صدق وكالة السفر.

على الرغم من أن ذلك قد لا يكون مكانا ملائما للتوقف وعد النقود فإنه ليس كئيبا وخطرا أيضا، إذ يجب عليك أن تعرف التاريخ السري لتلك المدينة الهادئة لتدرك ذلك الكم من قضايا الخداع الموجودة في تلك العمارات السكنية القليلة.

ففي فندق «دار السلام» الذي يضم مقهى أيضا على ناصية الشارع اختبأ ريتشارد ريد صاحب الحذاء المفخخ في 2001 قبل أن يستقل القطار إلى باريس ويحاول تفجير الطائرة المتجهة إلى ميامي.

على بعد أمتار قليلة كشفت غارات الشرطة في ذات العام على مطعم النيل الذي يملكه مصريون مواد متفجرة مخبوءة في قبو كانت خلية للقاعدة قد أعدتها لتفجيرها ضد هدف أميركي.

ويتكون غالبية رواد محلات الكباب والمقاهي والمطاعم المتراصة على جانبي الشارع عادة من الرجال، وهم يتنوعون بين رجال صناعة محترمين إلى ذوي الأصول المغربية، مثل الذي يبلغ من العمر 52 عاما والذي اعترف بأنه يتجسس للمخابرات البلجيكية ويحاكم في المغرب الآن بلائحة طويلة من التهم.

على مدار 20 عاما جذب بلعيرج الانتباه هنا في بلجيكا، وكان يشرب الشاي ويأكل الكسكسي في الوقت الذي كانت تتردد فيه شائعات عن قيامه بالتخطيط لسرقات بملايين الدولارات وصفقات سلاح وتبييض أموال وخطط ومؤامرات إرهابية.

كما يتهم ممثلو الادعاء بلعيرج بست جرائم قتل أخرى من بينها اغتيالات سياسية، لكن واحدة منها فقط يزعم بأنها كانت جريمة أصولية، فقد تم إطلاق الرصاص على رجل شاذ يبلغ من العمر 53 عاما لأنه كان يمارس الرذيلة مع شبان عرب في المناطق المحيطة بمحطة «غير دي ميدي».

ولا يدرك غالبية المسافرين في المحطة الباحثين عن القطارات السريعة إلى باريس ولندن على نحو كبير طبيعة هذه المكيدة. فطراز المحطة عملي وحديث، لكنه يفتقر إلى سحر الطابع التاريخي للمحطات في العواصم الأخرى.

وفي عام 2005 أقام متطرف يُدعى محمد رحا اعتصاما في إحدى محطات بروكسل ـ لم يتبين ما هي على وجه التحديد ـ مع زوجة مشتبه بها في جرائم إرهابية، وقالت المرأة في اعترافها إنها وزوجات متطرفين مسجونين كنّ على استعداد لارتكاب عمليات تفجير انتحارية لحساب القاعدة. ووعدها رحا بترتيب لقائها مع رئيس الشبكة لكنه أُلقي القبض عليه بعد ذلك في المغرب وأُدينَ في عام 2007 بتهم إرهابية.

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»