العالم الخفي وراء جرة يونانية لحفظ رماد الموتى

نقلت إلى المتحف كما لو كانت ملكة جمال البلاد

الجرة التي أعيدت إلى إيطاليا قبل عام («نيويورك تايمز»)
TT

جرى مؤخرا عرض الجائزة الكبرى التي نالتها إيطاليا عن جهودها في الحرب ضد نهب الآثار في «فيلا غيليا» (المتحف الوطني الأتروري) في روما، ومع ذلك لم يبدِ الإيطاليون اهتماما كبيرا بالأمر.

أما الجائزة فتمثلت في الجرة الشهيرة الرائعة التي يعود تاريخ صنعها إلى القرن السادس على يد الفنان الإغريقي أوفرونيوس، التي أعادها مؤخرا متحف متروبوليتان للفنون. وتعرف الجرة باسم «القدر الساخنة»، حسبما أطلق عليها توماس هوفنغ، المدير السابق لمتحف متروبوليتان، الذي جلبها إلى المتحف عام 1972.

شهدت منطقة كويرينال في روما العام الماضي معرضا للقطع الأثرية التي تمت استعادتها، وكان بمثابة حفل ترحيب بالجرة الإغريقية، وبعد المعرض سارع المسؤولون بنقل الجرة، كما لو كانت ملكة جمال البلاد، إلى معرض أقيم بمانتوا، وجاء على المستوى اللائق لبهائها.

في الوقت الحاضر توجد الجرة في «فيلا غيليا»، مقرها الجديد الدائم، داخل صندوق زجاجي ضخم مع إضاءة خافتة. وربما كان الاستعراض المبالغ فيه للجرة السبب وراء عدم اهتمام الإيطاليين بوجودها في المتحف. من ناحيتها، لم تولِ وسائل الإعلام الإيطالية كذلك اهتماما كبيرا بالأمر، وكان المتحف خاليا في مساء اليوم التالي لوضع الجرة به.

إلا أن كتابا جديدا قد يساعد في إحياء الاهتمام بالجرة، يحمل الكتاب عنوان «الكأس المفقودة: ملحمة السعي وراء قطعة فنية لا تقدر بثمن»، الذي نشره في الأسواق منذ فترة قريبة ويليام مورو. ويكشف الكتاب تفاصيل انتقال الجرة المسروقة من بلاد الإغريق القديمة إلى إيطاليا في عصر الحضارة الأترورية إلى نيويورك، ثم عودتها مجددا إلى هنا، إضافة إلى الجهد الدؤوب الذي بذله الفنان المبدع أوفرونيوس في قطعة فنية أخرى عبارة عن كأس تعرضت للسرقة من نفس المنطقة الواقعة هنا في تشرفيتيري، وهي مدينة تقع شمال غربي روما.

اضطلع بتأليف الكتاب فيرنون سيلفر، 40 عاما، وهو صحافي أميركي ويدرس في جامعة أكسفورد سعيا لنيل درجة الدكتوراه في علم الآثار. وقال في تصريح له منذ بضعة أيام: «يتناول الكتاب مجمل التجارة غير المشروعة في الآثار. لقد جاء العملان إلى الحياة على يد ذات الفنان الإغريقي، منذ 2500 عاما ماضية، وانتهى بهما الحال على يد نفس التاجر الإيطالي المشبوه في أميركا عبر طرق مختلفة، أحدهما طريق معلن، والآخر سري، وعادا كلاهما إلى إيطاليا».

والمؤكد أن مسؤولي متحف متروبوليتان والسلطات الإيطالية لن يسعدا بسرد تفاصيل قصة الجرة الإغريقية، ذلك أنه من الواضح أن الكثيرين عجزوا عن الاضطلاع بمسؤولياتهم، وانطلت الكثير من الخدع على الجانبين، حتى قبل أن يدفع متحف متروبوليتان (دون محاولة جادة لتفحص الحقائق) مليون دولار، وهو مبلغ غير مسبوق آنذاك، مقابل الحصول على ما يعتبر النموذج الأفضل للخزف المزخرف على يد أعظم فنان خزف معروف من حضارة اليونان القديمة. وتمثلت رواية المتحف في تبرير حصوله على الجرة، التي تصور القصة التي ألفها هوميروس حول مقتل ساربيدون، نجل زيوس، في أنها مملوكة لجامع تحف لبناني. لكن سرعان ما بدأت شائعات في الظهور حول أن الجرة تعرضت للسلب، وشرعت الشرطة الإيطالية في اقتفاء أثر الأدلة حول هذا الأمر في تشرفيتيري، المقامة محل مدينة أترورية قديمة تدعى كايري، المشهورة بمقابرها القديمة. يذكر أن أبناء الحضارة الأترورية حرصوا على جمع أعمال أوفرونيوس، وليس من قبيل المصادفة أن نجد أن تشرفيتيري الحديثة مشهورة بسارقي المقابر بها.

في أحد أيام الشهر الماضي عاد سيلفر إلى ذات المكان الريفي الواقع على أطراف المدينة الذي شهد أواخر عام 1971 وقوف حارس للمراقبة، بينما انهمك خمسة من سارقي المقابر في الحفر في أرض رطبة حتى اصطدمت أدوات الحفر بشيء صلب في الأرض. قاموا بحفر نفق طوله 15 قدما، وتوصلوا إلى مجمع لغرف دفن قديمة، وأدركوا أنهم وقعوا على ثروة عندما عثروا على جرار خزف مزخرفة، كانت في حالة ممتازة في أغلبها، رغم كونها مكسورة.

قام الرجل الذي اشترى منهم الجرار المسروقة بعد ذلك بنقلها إلى خبير معني بإصلاح القطع الأثرية في سويسرا، وأصلحها قبل إرسالها إلى تاجر، وعرضها ذلك التاجر بدوره على متحف متروبوليتان. ولم يدرك اللصوص أنهم أنفسهم تعرضوا للخداع إلا بعد عدة شهور عندما قرأوا في الصحف حجم المال الذي دفعه المتحف للحصول على جرة أوفرونيوس.

يضم الموقع حاليا دغلا من النباتات الشائكة التي تتنوع ألوانها بين الأصفر والأرجواني، ويفوح منها أريج النعناع البري. وليس من الصعب التكهن بسبب إقدام اللصوص على البحث هنا. تنتشر في المنطقة خرافة تزعم بأن هذه النقطة تحديدا يسكنها شيطان، كي يبقيها آمنة من لصوص المقابر. ومن منظور هؤلاء اللصوص بدت المنطقة بكرا لم يسبق لأحد البحث فيها عن الآثار.

من جهته قال سيلفر: «تلك أيضا منطقة يمكنك العثور فيها على القطع الأثرية ملقاة على السطح، وعليه كان واضحا أن البحث بها يمكن أن يجدي». في تلك اللحظة كان يوجد بالقرب من قدمي سيلفر كسر أثرية من آنية فخارية لا تزال آثار الألوان عليها، وبجانبها كانت توجد قطعة أخرى. في نهاية الأمر اتضح أن الشيطان المزعوم لا يعدو كونه تمثالا قديما لوحش، كان مدفونا إلى جانب عدد من التماثيل الحجرية الأخرى. وسعيا للتغطية على آثارهم عمد اللصوص إلى سد الأنفاق التي حفروها، وبعد ذلك قام المحققون الإيطاليون بجرف الأرض في سعي محموم للكشف عن المقابر المنهوبة. وبات من المستحيل بعد ذلك التعرف على الوضع الذي كانت عليه القطع الأثرية لدى عثور لصوص المقابر عليها. في هذا الصدد قال سيلفر: «لو قام شخص بالتنقيب على نحو مناسب في الموقع، ربما كنا توصلنا إلى قدر أكبر بكثير من المعلومات بشأن الحضارة الأترورية».

إلا أن اللصوص نجحوا في تسليط الضوء على الجرة، التي شاهدها لاحقا الملايين داخل متحف متروبوليتان، حيث ظلت طيلة عقود طويلة محور مجموعة الأواني الخزفية القديمة. يذكر أن الحال انتهى بالكثير من القطع الأثرية الأقل أهمية التي عثرت عليها السلطات الإيطالية لاحقا في متحف تشرفيتيري الصغير للآثار، الذي يلتزم صمتا غريبا حتى الآن تجاه عملية النهب.

أما الصمت الأغرب فيوجد داخل «فيلا غيليا»، حيث لم يصدر أي تعليق عما جرى في تشرفيتيري عند إعادة الجرة المسروقة. من ناحيتها تصر سلطات المتحف على أن الترتيب الراهن مؤقت، وأضافوا أن الجرة ستنتقل إلى معرض للقطع الفنية التي عثر عليها في تشرفيتيري يجري الإعداد له داخل «فيلا غيليا». في غضون ذلك نقلت الجرة من المكان الذي وجدها اللصوص، ثم بيعت إلى مشترٍ إيطالي، ثم سرقت من الموقع الإيطالي لتنتهي في نيويورك ليعرض إناء يوناني في متحف روماني مخصص للفن الأتروري. وتعرض الجرة الآن إلى جانب القطع الأثرية التي تمت استعادتها من المتاحف الأميركية، معها بطاقات لا تشير إلى الإرث التاريخي، بل إلى المعاهد التي أعادتها. ما يهم الإيطاليين، على ما يبدو، ليس تصحيح السجل الأثري، بل تحذير جامعي التحف من التجارة غير الشرعية في الآثار مثل تلك الجرة.

أما بالنسبة إلى التحفة التي كتب عنها سيلفر أنها قد تكسرت منذ بضع سنوات عندما سقطت من رجل شرطة سويسري بعد غارة على مخزن في جنيف يتبع جياكومو ميديتشي، الوسيط الروماني الذي اشترى الأواني من اللصوص ونقلها إلى روبرت هتشت، التاجر الأميركي الذي باع الجرة إلى مِت. وتقبع قطع الصحفة خلف أبواب مغلقة في معبد أتروري أنشئ على أرض «فيلا غيليا»، ومن حين إلى آخر يحاول زائر التحديق من كوة الباب لكي يرى ما بداخله.

إذا كانت لا تزال هناك شكوك حول ما إذا كانت يوفرونيوسيز سرقت فعلا أم لا، فيمكن سؤال فرانشيسكو بارتوتشي موجودا، إذ إنه آخر حي بين نابشي القبور. ويعيش بارتوتشي المزارع الذي يبلغ من العمر 70 عاما في منزل في تشرفيتيري. كان يقف في باحة منزله عندما خرجت زوجته من القبو تحمل إبريق زيت زيتون عصر يدويا وحقيبة بلاستيكية مليئة بالقطع المكسورة من الآنية الفخارية القديمة التي قالت إنها اكتشفت لدى إعادة ترميم باحة المنزل في الآونة الأخيرة.

وقالت عن قطع الأواني، قبل أن تسأل سيلفر إذا ما كان يرغب في حمل الحقيبة عن يدها: «إنها في كل مكان».

وقال بارتوتشي عندما سئل عن ميديتشي: «لقد سرقوا مني الكثير من المال»، فيما قال هتشت: «ماذا يفترض بي أن أفعل؟ لقد أصبحت لصا مثلهم». لكنه أضاف: «إنني مزارع ولست نابش قبور، لكني كنت أملك شاحنة، عربة بثلاث عجلات، كانوا بحاجة إليها نظرا للكم الكبير من الأغراض التي كان عليهم نقلها.

في تلك المنطقة التي كانت السرقة فيها حرفة مفتوحة، وكان فيها متجر يبيع الأواني القديمة المقلدة، وهي تدعى متروبوليتان موزيو، لا يبدي بارتوتشي أي نوع من الخجل على ما قام به.

وقال: «إنني فخور، وأنا آسف على ذهاب الإناء إلى أميركا، وإنني لم أجنِ الكثير من المال»، ثم ضحك وأضاف: «لكنني فخور بمشاركتي في أمر عظيم كهذا».

وقد سر بارتوتشي عندما علم أن الإناء عاد مرة أخرى إلى إيطاليا، وأضاف: «لكن ليس تشرفيتيري، نحن لا نملك متحفا ملائما هنا، فسيكون ذلك خطرا جدا، فقد تسرق مرة أخرى».

*خدمة «نيويورك تايمز»