البيت الأبيض: جدول مزدحم وعيون مرهقة

واشنطن السياسية شهدت منذ أمد بعيد تنامي ثقافة إدمان العمل

كافيتريا البيت الأبيض أصبحت ملجأ العاملين في الصباح الباكر، ومع حلول الثامنة مساءً تتدفق عليها الطلبات مجددا مع سعي العاملين للحصول على وجبة العشاء قبل العودة إلى مكاتبهم لحضور مؤتمر جديد عبر الهاتف أو اجتماع آخر («واشنطن بوست»)
TT

تفتح كافيتريا البيت الأبيض أبوابها في السابعة صباح كل يوم. ويوميا، يتراص أمامها صف طويل من العاملين الجوعى الذين حضروا إلى مكاتبهم منذ ما يزيد على الساعة. بحلول الثامنة مساءً، مع اقتراب موعد إغلاق الكافيتريا أبوابها، تتدفق عليها الطلبات مجددا مع سعي العاملين الذين تبدو على عيونهم علامات الإرهاق للحصول على وجبة العشاء قبل العودة إلى مكاتبهم لحضور مؤتمر جديد عبر الهاتف أو اجتماع آخر.

في هذا الصدد، علق أحد العملاء الدائمين للكافيتريا ويعد من كبار مستشاري الرئيس أوباما، بقوله: «أعتقد أن العاملين في الكافيتريا يمقتوننا جميعا». في مدينة قد يبلغ الحرص على العمل فيها حد الهوس، يقف أعضاء فريق العمل المعاون لأوباما كنموذج لافت للأنظار، فرغم أنهم لا يبدون وكأنهم يسيرون على غير هدى مثلما الحال مع الكثير ممن يرهقون في أعمالهم، فإن عيونهم تحيطها باستمرار الأكياس التي تصاحب التعرض للإرهاق الشديد. من جهته، قال روبرت غيبس، السكرتير الصحافي، الذي يضبط ساعة التنبيه الخاصة به على الرابعة والنصف فجرا، رغم تجاهله دقات جرس التنبيه كثيرا هذه الأيام: «إن هذا المكان يلتهم من يعملون به ويلفظهم في النهاية، وذلك بسبب الضغط العصبي وازدحام الجدول وساعات العمل». يتعرض جميع العاملين في البيت الأبيض عند لحظة ما للشعور بالإنهاك، لكن الملاحظ أن فريق العمل المعاون لأوباما بدأ عمله تحت وطأة ضغوط مرهقة على نحو خاص، الأمر الناجم عن ميراثهم أسوأ أزمة اقتصادية تتعرض لها الولايات المتحدة منذ «الكساد الكبير»، علاوة على مساعي فريق العمل الفوضوية في مظهرها لدفع أجندة تتضمن إنشاء نظام تأمين صحي جديد وتقديم إعانات مالية لإنقاذ صناعة السيارات وإحلال السلام بمنطقة الشرق الأوسط وتناول قضية منع انتشار الأسلحة النووية والتعامل مع حربين قائمتين بالفعل وإصلاح التعليم.

المعروف أن واشنطن السياسية شهدت منذ أمد بعيد تنامي ثقافة إدمان العمل، بناءً على فكرة سائدة مفادها أن الجوائز الكبرى للخدمة على الصعيد الحكومي الوطني تنبع من العمل على امتداد 18 ساعة يوميا. بيد أنه حتى أكثر عناصر فريق العمل في إدارة أوباما صلابة بدأوا يدركون حجم الثمن الفادح الذي يتكبدونه جراء السرعة الكبيرة التي يعملون بها. في هذا السياق، قال غيبس: «شعرت وكأني ملاكم من الوزن الثقيل ملقى على الأرض»، وذلك في إطار وصفه حالته المزاجية والصحية قبل السفر بصحبة الرئيس في رحلة لمدة ثمانية أيام عبر 10 مناطق زمنية.

وفي وقت مبكر من صباح أمس، هبطت طائرة الرئاسة الأميركية بقاعدة أندروز الجوية، حاملة فريقا من معاوني الرئيس الذين لم يتمكنوا من النوم سوى لبضع ساعات خلال الأيام التي قضوها في روسيا وإيطاليا وغانا. ومع ذلك، ينوون جميعهم استئناف العمل قبل شروق شمس اليوم.

وكان من شأن الجدول المزدحم إجبار غالبية مساعدي الرئيس على التخلي عن التدريبات الرياضية. أما القليلون الذين استمروا في ممارسة التدريبات ـ غالبا تحت حث مستمر من قبل رؤسائهم المهتمين بشدة باللياقة البدنية ـ خططوا للقيام بالتدريبات خلال أوقات شكلت عبئا إضافيا على جداول أعمالهم. ومن جهته، عادة ما يصل راهم إيمانويل، رئيس فريق العاملين بالبيت الأبيض، صالة التدريبات الرياضية داخل مجلس النواب في الخامسة والنصف صباحا، بينما تبدأ كبيرة مساعديه، سارة فينبرغ، تدريباتها الرياضية في صالة تدريبات رياضية بمنطقة ووتر ستريت في الخامسة والربع صباحا. بحلول الخامسة والنصف صباحا، تظهر «نشرة البيت الأبيض»، وهي عبارة عن تجميع لقصاصات صحافية من الصحف المطبوعة ومواقع شبكة الإنترنت، في صورة رسائل بريد إلكتروني وعلى أجهزة «بلاكبيري» الخاصة بالعاملين في الإدارة. بحلول السابعة صباحا، يعج طريق ويست إجزكيوتيف درايف الرابط بين البيت الأبيض ومبنى أيزنهاور الإداري بسيارات العاملين في البيت الأبيض. يجتمع كبير مساعدي أوباما في مكتب إيمانويل في السابعة والنصف صباحا بصورة يومية. أما غيبس ـ فمثلما كان الحال مع سابقته، دانا بيرينو ـ يصل مقر عمله بعد السادسة صباحا بقليل من أجل الاستعداد للاجتماع. ومن ناحيتها، قالت جين سبيرلنغ، مستشارة وزير الخزانة، تيموثي إف.غيتنر، وأحد العناصر البارزة في إدارة بيل كلينتون، إن «أكثر ما يشد الانتباه كان العمل طيلة 24 ساعة على مدار 7 أيام أسبوعيا. ما بين كل نمط استجابة للأزمة المالية وأزمة صناعة السيارات ومحاولة استعادة عافية النشاط الاقتصادي وآخر ـ يمكن أن تتحول عطلات نهاية الأسبوع إلى مؤتمر مستمر عبر الهاتف. ولحسن الحظ، تحسن الوضع قليلا». من ناحية أخرى، يتذكر أعضاء فريق العمل بالبيت الأبيض في ظل إدارة الرئيس جورج دبليو.بوش اضطرارهم في بعض الأحيان للعمل لفترات تتراوح بين 18 و20 ساعة يوميا، خاصة في أعقاب وقوع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وخلال المراحل الأولى من الحرب في العراق. ولم يكن الحرمان من النوم بالأمر الغريب على أعضاء فريق العمل المعاون لبيل كلينتون ـ الذين عاد الكثيرون منهم إلى البيت الأبيض بعد ثماني سنوات ـ حيث خلق الرئيس الـ42 وتيرة سريعة في العمل على امتداد فترة رئاسته. وعلقت بيرينو، السكرتيرة الصحافية السابقة المعاونة لبوش والتي عملت في البيت الأبيض لقرابة سبع سنوات، بقولها: «هناك وتيرة العمل، وساعات العمل، وكثافة العمل، والتوتر، والضغوط من أجل تقديم نتائج. اعتدت الاستيقاظ في الربعة صباحا كل يوم. وكان الأمر أشبه بالتعرض للقذف من مدفع». مع أنه لم يمر على تولي أوباما للرئاسة سوى ستة شهور، تولى تقريبا جميع مساعدي الرئيس من المستويات العليا والوسطى مناصبهم فور انتهاء أطول حملة انتخابية رئاسية في التاريخ. والآن، يعمد أوباما إلى اختبار قدرة العاملين معه على التحمل. حتى الآن، هناك شعور ملحوظ بالفخر في أوساط العاملين بالبيت الأبيض إزاء قدرتهم على التفاوض بشأن المعاهدات وصياغة التشريعات المعقدة وتقديم إعانات مالية لإنقاذ المصارف ـ كل ذلك اعتمادا على نيلهم قسط قليل من النوم. في رسالة بريد إلكتروني كتبها أثناء رحلة قام بها مؤخرا إلى خارج الولايات المتحدة، كتب مايك هامر، المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي، يقول: «إننا نتأخر كل ليلة، ونعمل خلال عطلات نهاية الأسبوع ـ بصورة أساسية نعمل طيلة 24 ساعة لمدة 7 أيام. لست على ثقة إزاء المثال الذي يمكنني طرحه عليك، لكن ها أنا ذا في الـ12.30 صباحا في إسلام آباد مع الجنرال ]جيمس إل.[ جونز وأجيب على رسالتك الإلكترونية»، في إشارة إلى مستشار الأمن القومي. خلال الشهرين الأولين من عمر إدارة أوباما، حاول مسؤولو البيت الأبيض ووزارة الخزانة التعامل مع الأوضاع الاقتصادية المتردية بلا هوادة. وباتت صورة كبير المستشارين الاقتصاديين لأوباما، لورانس إتش.سمرز، وهو يغفو خلال اجتماع رئاسي مع عدد من المسؤولين التنفيذيين المعنيين ببطاقات الاعتماد أشبه بشعار لهذه الفترة.

فيما وراء الكواليس، كان الأمر أسوأ. في الليلة السابقة لإعلان أوباما خطة الإدارة بخصوص الإسكان في 18 فبراير (شباط) في أريزونا، بعث سبيرلنغ برسالة عبر البريد الإلكتروني تحمل الوثائق النهائية في الـ3 صباحا وطلب الحصول على تعليقات. وعلى الفور، أجاب خمسة أفراد. ومن ناحيته، يطلق مارتن مور إيد، البروفسور السابق بجامعة هارفارد، على هذه الظاهرة «الرجل الحديدي»، وأوضح أن بيئة العمل السياسي الأميركية لا تزال واحدة من بيئات العمل القليلة على مستوى العالم التي لا تزال ترفض إقرار آلية لضمان حصول الأفراد على قسط من الراحة.

يذكر أن دراسة أجراها البرلمان البريطاني توصلت إلى أن «الإرهاق الذهني يؤثر على الأداء الإدراكي، ويتسبب في وقوع أخطاء في إصدار الأحكام والتعرض لنوبات نوم خاطفة (تدوم لثوان أو دقائق) وتقلبات مزاجية وتدني مستوى الحافز». وخلصت الدراسة إلى أن تلك التأثيرات تعادل تأثير وصول نسبة الكحوليات في الدم إلى 10 في المائة، مما يفوق الحد القانوني المسموح به لقيادة السيارات في الولايات المتحدة. في المقابل، لا يأبه مسؤولو إدارة أوباما، ولا سابقوهم، بمثل هذه التحذيرات، مشيرين إلى تسارع إفراز الأدرينالين. ويشددون على أن أجسادهم باتت معتادة على نحو غريب على وتيرة العمل في وظائفهم. إلا أنهم اعترفوا بأن روتين العمل داخل البيت الأبيض أشد وطأة عمل توقعه معظمهم.

وبدأ العاملون بالفعل في الحصول على بعض الراحة. على سبيل المثال، تمكن أحد نواب السكرتير الصحافي من اقتطاع بضعة أيام ليقضيها في هاواي. وشارك غيبس في حفل جمع الشمل الذي أقامته مدرسته الثانوية في ألاباما، وذلك خلال أول عطلة نهاية أسبوع يحصل عليها منذ انضمامه إلى البيت الأبيض.

لكنه استطرد موضحا أن هذا الأمر غير كاف. وتحسر على وضعه قائلا: «أتجه إلى الكافيتريا وأتناول القهوة في الخامسة مساءً، ولا يجدي أي شيء. وأدرك حينها أني تجاوزت في رغبتي في النوم الحد الذي يمكن لمثل هذه الدفعة التي توفرها القهوة تحقيق جدوى عنده ـ بل إنني حتى لا أشعر بها».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»