البلقانيون في القرن الـ21.. «يا ورد مين يشتريك؟»

عائدة تشالايتش: الناس ليس لديهم ما يشترون به الخبز فكيف بشراء الزهور ؟

برأي علماء الاجتماع الورود كانت ولا تزال رمزا للحب والمودة والنوايا الحسنة، وأحيانا تأخذ مكان المهر («الشرق الأوسط»)
TT

شعوب البلقان تحتفي بجمال الطبيعة باستمرار، رغم بشاعة الحروب التي عرفتها مناطقهم. وتعتبر الزهور من رموز الجمال لديهم إضافة إلى الشمس، التي تأخذ مكان القمر في معايير الجمال عند العرب. غير أن النظرة للزهور والورود، طرأ عليها تغير كبير في نظر الكثير من الناس، ولا سيما الشباب، الذي يسخر بعضهم ممن يرون بيده باقة ورد. ولم يقف الأمر عند الذكور. بعض الفتيات يفضلن الذهب والفضة وهدية الخمسين والمائة والمائتي يورو على مجرد باقة بخمسة أو 10 أو حتى 50 يورو، بعد أن فقدت قيمتها المعنوية والفلسفية كرمز للحب والود. لا سيما بعد أن تفطنت الفتيات بأن تلك الهدايا التي يقدمها بعض الشباب، ليست سوى مطية، يستغل بها البعض رمزية الورود لتمثيل قصص الحب تحت شعار «الورد الأحمر للحب الأسود». مصطلحات ومفاهيم كثيرة تسيطر على الناس في البلقان، بعضها قلب ما كان سائدا رأسا على عقب. لكن المدافعين عن الرومانسية لا يزالون في مواقعهم ويتهمون البعض بتشويه كل شيء حتى الحب ورموزه. وقال آدم كلابيتش (25 عاما) مهندس لـ«الشرق الأوسط» إنه لم يشتر الورد في حياته قط كهدية، وإنما يشتريه بالجملة ليبيعه بالقطعة في المناسبات كيوم 8 مارس. وقال «لم أشتر لخطيبتي ورودا ولا لأي من أفراد أسرتي، ولكني اشتريت لها هدايا معتبرة فهي تحب الذهب القديم وثمنه أفضل». وعن الرمزية التي تمثلها الورود أجاب «ما قيمة الرموز إذا تم تدنيسها من قبل البعض».

ولهذا السبب قامت إحدى الفتيات الجامعيات بشكر خطيبها عند تسلمها باقة ورد قدمها لها قائلة «جاءت في وقتها السلحفاة لم تأكل شيئا هذا اليوم، وسأقدم لها هذه الشيكولاته»، ويمضي آدم قائلا «الزهور للضحك على النساء لأنها رخيصة، وعقدة الرومانسية مستحكمة في أذهان البعض ولا تزال كما هي لم تتغير».

لكن رأي أصحاب محلات بيع الزهور مختلف وقالت عائدة تشالايتش (52 سنة) لـ«الشرق الأوسط» إنها تعمل في مجال بيع الزهور منذ 30 عاما، وانتقلت من مكان إلى آخر حتى استقرت في معرضها الحالي منذ 15 عاما. واعترفت عائدة بوجود نقص في اهتمامات الناس بالزهور، لكن الوضع ليس مأساويا على حد قولها «السفارات الأجنبية والفنادق وحتى الناس العاديون لا يزالون يشترون الزهور للمناسبات، ولحفلات الغداء، ولحفلات الزفاف، ولأعياد الميلاد»، وقالت إن الأوضاع قبل الحرب أفضل مما هي عليه الآن «الناس ليس لديهم ما يشترون به الخبز فمن أين لهم بأموال لشراء الزهور». وذكرت بأنها غالبا ما ترمي الزهور بعد أن تذبل ولا تجد من يشتريها «الزهور أعمارها قصيرة، كجمال النساء، وإن كان ما يعد بالسنوات هي أيام بالنسبة للزهور، فهي يمكن أن تبقى بين 10 و15 يوما في الشتاء و8 أيام فقط في الصيف ونضطر أحيانا للرمي بها في صناديق النفايات». ووصفت النساء اللواتي لا يحببن الزهور بالمجنونات «الله سبحانه ذكر في القرآن أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والزهور زينة فمن يكرهها». وعن الأسعار قالت «بين 10 و50 يورو». وانتقلت «الشرق الأوسط» إلى أكبر مجمع للزهور والنباتات في سراييفو، وهي شركة تابعة للدولة يعود تأسيسها إلى سنة 1948 حيث التقت نائب المدير، ستيبان سيتشكو (56 سنة) الذي أوضح أن «الشركة هي التي تزود جميع نقاط البيع الخاصة بالزهور والنباتات المنزلية وغيرها، وهي التي تقوم بتشجير وتزويد الحدائق التابعة للبلديات بالزهور وبقية النباتات وحصلنا على جائزة من الحكومة». وعن تأثير الأزمة على عملية إنتاج الزهور قال «لدينا 250 عاملا وتكلفة الإنتاج تصل إلى 200 ألف يورو شهريا، وهناك حديث عن تخفيض عدد العمال أو تقليص الرواتب وكل ذلك سيكون له تأثير على الإنتاج وعلى المساحات الخضراء في المدن»، وأكد قيام الصرب بوضع الخمور وحتى البيض عند قبور الموتى بدل الزهور. وعن آخر مرة أهدى فيها زهورا لزوجته، ضحك وقال «منذ 10 سنوات أو أكثر». أمير باليتش (23 سنة) طالب بكلية الفلسفة قال «اسأل النساء عن الزهور فسيقلن لك إنهن يحببنها، ولكنهن لا يستطعن القول لماذا». وذكر أنه اشترى زهورا مرة واحدة، وكانت لأمه. وأنه لم يهد لفتاة زهرة أبدا. لكنه أهدى لخطيبته هاتف جوال وملابس مختلفة. وعن أجمل هدية يمكن أن يقدمها شاب لفتاته قال ضاحكا «هناك جملة تحبها بعض الفتيات في البلقان، أفضل من زهور الدنيا...». ويذكر عامر فوكاليتش (23 سنة) طالب علم اجتماع، أن خطيبته ضربته على ظهره بوردة قدمها لها قائلة «أريد سلسلة ذهبية» أما نجاد (38 سنة) ويعمل نادلا في مطعم فقال «لم أشتر لزوجتي ورودا ولكني اشتريت لها أشياء أخرى». فيما يذكر زميله حارث (25 سنة) وهو خريج صحافة، أنه اشترى وردة لزوجته بمناسبة يوم 8 مارس. بعض النساء رفضن الحديث حول الموضوع، لأنهن غير مستعدات نفسيا، حسب ما ذكرت بعضهن لـ«الشرق الأوسط». بينما رحبت الفتيات بذلك وقالت سلمى كاريتش (21 سنة) طالبة إعلام سنة ثانية «الورود هدية ثمينة، وهي أفضل هدية بالنسبة للمرأة» مؤكدة في الوقت ذاته أنها تفضل الورود على أي شيء آخر حتى لو كان مالا أو ذهبا. مفندة بذلك نظرة بعض الشباب للفتيات بأنهن يفضلن المال والذهب وما خف وزنه وغلا ثمنه. وعن آخر مرة تلقت فيها وردة قالت «في 8 مارس وكانت من زميل» وعما إذا كانت أهدت ورودا أشارت إلى أنها أهدت زميلا باقة ورد في يوم نجاحه في الامتحان. وعن تأثير الورود على الفتيات أكدت أن «لها تأثيرا كبيرا.. لو أهداني أحد زهورا وطلبني للزواج سأوافق فورا».

زميلتها ليا أزونوفيتش (21 سنة) وتدرس صحافة، أيضا ذكرت بأن الزهور «رمز للحب وللعزاء وللفرح» وقالت إنهم يعتنون بالزهور في بيتهم، حيث يضعونها في بهو المنزل وفي الشرفة. وأنها تشتري الزهور بمعدل ثلاث مرات في السنة. كما أنها أهدت زهورا في احتفال بعيد ميلاد إحدى صديقاتها قبل بضعة أيام. أما زميلتهما الأخرى عايدة كرايسيتش (21 سنة) فترى أن المرأة أو الفتاة التي لا تقبل الزهور من الزوج أو الخطيب «تؤكد بتصرفها أن لديها مشكلة مع الزهور، أو مع ذلك الشخص، وعليها أن تقبل الزهور ثم تطالب بالأشياء الأخرى»، وقالت «قد تكون لا تحبه، أو هي معه من أجل مصالح». وهناك حسب الفتيات الثلاث «من تشتري الورود وتذهب بها إلى الجامعة أو الكافتيريا لتزعم أنها أهديت لها». وقد اعترفت زكية ديليتش أنها تشتري الورود لنفسها. وأن زوجها لم يشتر لها ورودا منذ تسع سنوات. وقالت مهيدة براغانليا أوفيزوفيتش (31 سنة) «أحب الزهور، فهي رمز للحب، ولذلك لا أقبلها سوى من زوجي» أما ألما فورتو، فتحب الزهور، سواء في المناسبات أو بغير مناسبة «تلقيت باقة من الزهور قبل 25 يوما في عيد ميلاد زوجي، وبالأمس تلقيت زهرة منه». وعمن يرفضن الزهور قالت «هن يرغبن في الزواج من شيوخ أثرياء».

وقالت سعاد دوراكوفيتش «لا يمكن سؤال المرأة عن الزهور فكل امرأة تحب الورود، وهي رمز للاحترام والحب والشعور الطيب»، وعددت أنواع الزهور وألوانها وما ترمز إليه «الأحمر للحب، والأصفر رمز الغيرة، والأبيض للزواج، والأزرق للأغراض الخاصة» وهناك من يعتبر لون الورود كأوراق الحكم في لعبة كرة القدم «الأبيض، اللعب دون حدود، والأصفر للإنذار، والأحمر للإقصاء بعد نيل المرغوب».

وقال الباحث في علم الاجتماع الدكتور سليم دوبيتش «الورود كانت ولا تزال وستبقى رمزا للحب والمودة والنوايا الحسنة، وأحيانا تأخذ مكان المهر، فالمرأة تحب أن يهدى لها، ولا يمكن تصور علاقة بين رجل وامرأة لم يسبقها إهداء عزيز عليها، وبعض الميسورات تقوم بإعطاء زوجها مالا ليشتري به شيئا يهديه لها ليجتمع شملهما تحت سقف واحد»، وتابع «لا بد من إهداء المرأة شيئا لكسب قلبها وإعطاء العلاقة معها بعدا شعوريا حتى لا تكون مجرد علاقة ميكانيكية». وعن الآراء الجديدة قال «تحصل تغييرات في المجتمع وفي نظرة الناس، لكن المشاعر الإنسانية تظل تحتفظ بالثوابت وإن أخذت أشكالا مختلفة، فالنظرة للورود لم تؤثر على النظرة لقيمة الإهداء». وقد تأثر الأموات بدورهم بهذه التغييرات، فالكثير من الصرب والكروات على سبيل المثال، لم يعودوا يضعون ورودا على قبور موتاهم، ولكن بعض المشروبات. وهي عادة قديمة جدا تم تجديدها «لأن الزهور رخيصة» ويذكر ذلك بقصة أحد البريطانيين الذي شاهد بعض الصينيين يضعون الطعام على قبور موتاهم فسألهم باستنكار «هل يأكل الموتى الطعام، يا لكم من أغبياء» فرد عليه أحدهم «وهل يشم الموتى الزهور أيها الانجليز الأغبياء».