مترو لندن يكتسب وجها فلسفيا

الحكم والأقوال المأثورة ليست غذاء للفكر فحسب وإنما تعد ضربا من الفنون

أبناء لندن تربطهم علاقة معقدة تحمل وجهي الحب والكراهية إزاء المترو، وغالبا ما تميل باتجاه الوجه الأخير
TT

في قيظ يوم من أيام الصيف، وفي خضم زحمة الركاب المتكدسين داخل مترو لندن، هل هناك حاجة حقيقية لأي من الركاب بأن يتم تذكيره بأن «الجحيم هو الآخرون»، مثلما كتب جان بول سارتر؟

الواضح أن هناك من يؤمن بذلك بالفعل حسب ما يتضح من حملة جديدة غريبة من نوعها، تهدف إلى إظهار أن استخدام وسائل المواصلات العامة والتأمل الفلسفي لا يتعارض بعضهما مع بعض.

في إطار الحملة الجديدة، جرى توزيع كتيبات تتضمن عبارات شهيرة مقتبسة من أعمال كبار الكتاب والفلاسفة على السائقين وغيرهم من العاملين بخط مترو بيكاديلي، بحيث يرددونها عبر أجهزة الاتصال الداخلي حينما يحلو لهم ذلك.

وبدلا من استماعهم إلى عبارة «نتمنى لكم يوما طيبا» كما هو الحال مع أقرانهم الأميركيين، فقد يستمع الركاب البريطانيون هنا الآن إلى درر أمثال «العرش ليس سوى أريكة مغطاة بالمخمل» (مثلما قال نابليون بونابرت، الذي لم تضطره الظروف يوما إلى القتال من أجل ضمان مقعد في مترو الأنفاق)، و«لا بد أن هناك ما تحتاجه الحياة أكثر من زيادة سرعة إيقاعها» (مثلما قال غاندي، الذي لم يعلق داخل مترو قط بينما كان يحاول جاهدا الإسراع للحاق بمقابلة عمل).

من جهتها أوضحت هيئة نقل لندن، المسؤولة عن تشغيل مترو الأنفاق، أن الحكم والأقوال المأثورة ليست غذاء للفكر فحسب، وإنما تعد ضربا من الفنون.

على مدار سنوات كثيرة حاولت هيئة النقل توسيع آفاق ركاب المترو، الذي يقل في المتوسط قرابة 3 ملايين راكب يوميا. ويهدف برنامج «فن في المترو» إلى نشر أعمال فنية في الكثير من المحطات، والاستعانة برسومات جديدة لغلاف خريطة المترو، التي تصدر منها الهيئة قرابة 5 ملايين نسخة تنفد جميعها في كل مرة يجري تحديثها بها.

طرأت فكرة نثر لآلئ الحكمة على امتداد الرحلات التي يقوم بها ركاب المترو على ذهن جيرمي ديلر، الفنان الذي حصد الكثير من الجوائز، والذي عادة ما يتجنب استخدام المترو، إلا أنه شعر بحاجة إلى بث روح جديدة في التجربة التي يعيشها ركاب المترو. جدير بالذكر أن أبناء لندن تربطهم علاقة معقدة تحمل وجهي الحب والكراهية إزاء المترو، وغالبا ما تميل باتجاه الوجه الأخير.

وأبدى ديلر ازدراءه للنصائح المعهودة داخل المترو مثل «أفسحوا الطريق لمن سيخرج من المترو أولا»، و«نرجو أن تحملوا معكم أمتعتكم». وعلق في هذا الصدد بقوله: «إنه أمر مدمر للروح». في بداية الأمر اقترح ديلر ما يمكن نعته بالفن غير الأدائي، وهو إقرار يوم يخلو تماما من إلقاء البيانات على الركاب، إلا أن مقترحه سرعان ما قوبل بالرفض من جانب مسؤولي النقل، وعليه غيّر ديلر من تفكيره وقال: «فكرت في أنه قد يكون من اللطيف الاستماع إلى عبارة ما تحمل معنى أكبر أو يترك صدى لدى الراكب». وهذه المرة وافق المسؤولون البيروقراطيون على المقترح.

بناء على ذلك، عكف الفنان على تصفح الكتب والبحث عبر شبكة الإنترنت سعيا وراء عبارات مناسبة. والملاحظ أن الأقوال المأثورة لويليام شكسبير لاقت قبولا، وكذلك كارل ماركس. وحرص ديلر على اقتباس أقول لفلاسفة قدماء ومعاصرين، وإن كان الشك يراوده إزاء مدى تقبل الركاب لمقولة سارتر الشهيرة سالفة الذكر التي تنطوي على بُغض بالغ للبشر.

تتميز بعض الأقوال المأثورة التي وقع عليها الاختيار بالذكاء وسرعة الخاطر، مثل «أونصة من العمل تكافئ طنا من النظريات» لفريدريتش آنغلز. بينما يحمل بعضها الآخر طابعا تأمليا أكبر، مثل «المساء يدرك ما لم يتوقعه الصباح قط»، وهي حكمة سويدية. ويهدف اختيار المقولات الشهيرة إلى تكملة تحذير الأمان الشهير في المترو «احذر الفجوة» بشيء آخر أكثر إثارة للإلهام، بهدف كسر الملل والرتابة المصاحبة لاستخدام وسائل النقل العامة يوميا.

على هذا الصعيد، علقت سالي شو، أمينة الشؤون الفنية داخل المترو، بقولها: «الهدف تيسير هذه التجربة (استخدام المترو) وبث الروح فيها. عندما يحدث هذا التغيير الضئيل، وهذا التبدل في النبرة... في البيانات المعلنة تلحظ ابتهاج الناس على الفور».

وفي الوقت الذي لاقت الفكرة بالفعل ترحيبا من جانب بعض الركاب، جاء رد فعل البعض الآخر على النسق البريطاني الكلاسيكي التقليدي، بمعنى قدر كبير من الشكوك والسخرية اللاذعة.

على سبيل المثال، قالت سالي أوسوليفان، 40 عاما، مصممة الأزياء التي تقطن ضاحية نوتنغ هيل الراقية: «دعونا نوقف هذه الفلسفة. بالنظر إلى واقع وسائل المواصلات في لندن، فإننا بحاجة إلى عقار فاليوم، وليس إلى أقوال مأثورة».

جدير بالذكر أنه من بعض جوانبه يشكل المشروع الجديد امتدادا لتقليد ثري قائم بالفعل في أوساط سائقي عربات المترو والعاملين في المحطات، الذين يغلفون بياناتهم المعلنة بتعليقات حادة ومرتجلة.

وقد جرى تجميع بعض هذه التعليقات في كتاب حول توافه المترو بعنوان «وان ستوب شورت أوف باركنغ». ومن بين تعليقات السائقين والمسؤولين الواردة بالكتاب: «يقف هذا القطار بجميع المحطات وصولا إلى أبمنستر، باستثناء كانون ستريت، حيث لا يتوقف هناك لعدم وجود اهتمام بها»، ومن التعليقات الأخرى: «أعتذر عن تأخر الخدمة. أدرك أنكم تتوقون جميعا للعودة إلى دياركم، إلا بالطبع إذا تصادف أنكم متزوجون من زوجتي السابقة. في هذه الحالة سترغبون في العبور إلى الرصيف المقابل والانتقال في الاتجاه المعاكس».

يذكر أن الكتيب الذي وضعه ديلر للأقوال المأثورة جرى توزيعه في مارس (آذار) على جميع فريق العاملين بخط بيكاديلي البالغ عددهم 1500 شخص. ويتمتع العاملون بحرية مطلقة إذا ما كانوا يتلون مقتطفات من الكتاب.

في الوقت الراهن، يقتصر المشروع على خط بيكاديلي، أكثر ثاني خطوط المترو ازدحاما. ومن بين أشهر المحطات التي يمر بها الخط نايتسبريدج، حيث يوجد متجر هارودز، وهايد بارك كورنر، وبيكاديلي سيركس، وليسستر سكوير.

وعلق ديلر على الخط بقوله: «إنه خط جيد بالفعل، ذلك لأنه يمر بقلب لندن، ويصل حتى مطار هيثرو». كما يتوقف المترو عبر هذا الخط بالقرب من منزله في شمال لندن، إلا أنه يفضل ركوب الدراجة عن استخدام المترو.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز»

* خاص بـ«الشرق الأوسط»