الجندول في فينيسيا تقوده امرأة بعد 900 سنة من سيطرة الرجال

ليل الهوى ساحر تحت أقدام الحسن والهنا

المعروف تاريخيا أن الجندول زورق تجديف خشبي تقليدي مطلي باللون الأسود يستخدم فيه السائق أو السائقة من الآن فصاعدا مجدافا واحدا لتشغيله (أ.ف.ب)
TT

ما الذي يجمع بين الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب والموسيقار الفرنسي جاك أوفنباخ؟

المكان: القناة الكبرى في البندقية. بطل القصة: الدكتور هوفمان. الملحن: جاك أوفنباخ. يتهادى القارب الشهير للمحبين والعشاق (الجندول) في إحدى روايات أوبرا هوفمان حين يصل إلى البندقية باحثا عن حبه الخيالي الثالث على أنغام لحن الباكارول المعروف وتنتظره المحظية الجميلة جولييتا التي تبغي الاستحواذ على روحه ويسمع صوتا يغني قائلا:

* الليل رقيق.. ليل الهوى الجمال صيّرنا سكارى والليل يبتسم وكأنه روى.. قصة الهوى ثم يسمع جولييتا تنشده: الوقت يطير والنسيم يداعبنا ويقبلنا يا ليل الهوى يا رقة مشاعرنا لكن هوفمان يكبح عواطفه ويغني:

يا إلهي لا أرى شيئا يسحرني هنا على أقدام الحسن والهنا يتنهد الشوق مبتهجا ونغني ونضحك من غزلنا

* هذه هي صورة البندقية (فينيسيا) التي ألهمت الكتاب والموسيقيين والشعراء.. المدينة الحالمة العابقة بالفن والفريدة ببحرها وشوارعها المائية وسياحتها العاطفية ومراكبها السوداء المزخرفة التي سيطر الرجال الأقوياء على قيادتها منذ 900 سنة لكن المحكمة الإقليمية في مقاطعة فينيتو بشمال شرقي إيطاليا أصدرت قرارها مؤخرا بالسماح للنساء بقيادة الجندول بعد معركة قانونية دامت عشرة أعوام وأصبح للمرأة الآن حق نقل المسافرين والسياح إلى فنادقهم بالقارب الذي وصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب في إحدى أغانيه الرائعة قائلا: «يا عروس البحر يا حلم الخيال.. ذهبي الشعر ملح الأعطاف حلو اللفتات».

بدأت هذا الشهر أول سائقة عملها على المراكب وهي جورجيا بوسكولو بعد أن خضعت لفحص قاسٍ إثر ستة أشهر من الدراسة والتمرين، ويعمل والدها قائدا لمركب الجندول كما أنها والدة لطفلين، وقالت في تصريح خاص إن التوليد أصعب من قيادة الجندول وإنها واثقة من نجاحها بعد أن تكتسب الخبرة بالممارسة وتنضم إلى جمعية سائقي الجندول التي يبلغ أعضاؤها حاليا 405 أعضاء. يبلغ السعر المتداول لاستخدام الجندول 120 يورو (أو 168 دولارا) في الساعة بعد المساومة، ولا يمانع السياح ومن يقضون شهر العسل في هذه المدينة العريقة الساحرة دفع هذا المبلغ عوضا عن استخدام المركب البخاري للمواصلات العامة الذي يطوف قنوات البندقية بسعر زهيد. ما لا يعرفه كثر من الزوار أن الجندول الحالي تطور عن النموذج القديم وأصبح عمليا أكثر من سابقه ويمكن تحريكه في الوقت الحاضر بمناورات سهلة.

حين زرت البندقية مجددا لمست أن منظر المدينة يغدو أكثر روعة من داخل الجندول وكأنك ترى أمامك لوحة فنية للرسام الكبير في القرن الثامن عشر جيوفاني كاناليتو الذي صور مشاهد البندقية والقناة الكبرى، ثم أدركت أن جمال المنظر الشامل العريض أصبح أكثر فتنة بعد أن أزالوا القمرة الخشبية أو الحجرة الخصوصية في الموديلات القديمة كي ترى مشهدا طبيعيا دائم التغير. وحسب القواعد الجديدة لا يمكن استعمال الخشب المصنوع من طبقات رقيقة مغراة بل يجب صنع القارب من خشب أصلي صلب. لا يظن أحد أن هذا القانون قد مر بسهولة لأن أحد كبار النجارين في البندقية، وهو جانفرانكو فيانيللو، يعتقد أن الخشب المكون من طبقات رقيقة أصلح لهذا النوع من القوارب ويتحمل ماء البحر المالح ولا يتطلب عناية زائدة، بينما يعارضه أتباع جمعية «فيلزيه» لصناعة قوارب الجندول الذين فرضوا القانون الجديد، فحجتهم أن الجندول هو رمز لمدينة البندقية المبنية على 227 جزيرة صغيرة متفرقة. يقول نديس ترامونتي عميد صانعي قوارب الجندول في البندقية: «لا داعي لتزيين القارب بالنقوش والذهب وتحويله إلى عربة ملونة على طريقة جزيرة صقلية في الجنوب».

المعروف تاريخيا أن الجندول زورق تجديف خشبي تقليدي مطلي باللون الأسود يستخدم فيه السائق ـ أو السائقة من الآن فصاعدا ـ مجدافا واحدا لتشغيله، وربما جاء الاسم من اللغة اليونانية «كونتورا» ويطلق عليه في بلاد الشام اسم « شختورة». وصفه الكاتب الأميركي المعروف مارك توين عام 1869 في كتابه «الأبرياء في الخارج» حين زار أوروبا بأنه ينزلق بسلاسة مثل الثعبان وأنه ضيق وعميق يشبه الزورق الخفيف وطوله يتراوح بين 7 و10 أمتار، ثم وصف سائق الجندول بأنه بحّار وغد جدير بأن يكون موضوعا لصورة رائعة لأنه يتصرف بجلال ويتمايل بشكل رشيق لدن، ثم يضيف: «نزهة الجندول هي أرق وأبدع طريقة للمواصلات والتنقل».

تعرف البندقية قارب الجندول منذ ألف عام حين جرى ذكره في إحدى مراسلات موظف سامٍ في جمهورية البندقية عام 1094، وفي عام 1490 ظهرت صورته في لوحات الرسامين العظماء مثل بيليني، وبعدها بدأ تزيينه حسب الطرق الفنية السائدة في عصر الباروك، وازدادت شعبيته في القرن السابع عشر حتى وصلت أعداد القوارب من هذا النوع إلى ما يقرب من عشرة آلاف، أما في يومنا هذا فلن تجد أكثر من بضع مئات من قوارب الجندول يصل طولها إلى عشرة أمتار بعرض متر واحد، وبعض البحارة الذين يقودونها يتقنون أيضا فن الغناء، وقد تسمع أحدهم يغني ليلا في الهواء الطلق مستوحيا أوبرا «روايات هوفمان» أو بعض الأغاني الشعبية، بينما ينساب الجندول في الممرات والقنوات المائية، أي شوارع المدينة، قرب ساحة سان ماركو المشهورة. إنهم ولا شك يعرفون بحر البندقية العميق وبحيرتها الضحلة ويدركون أن السياح مقتنعون بأن رحلة الجندول البطيئة هي الفرصة الوحيدة أمامهم كي يشاهدوا بإمعان وتدقيق الأبنية التاريخية والقصور الأثرية وفيلات النبلاء من أيام المغامر الشهير كازانوفا، وقد ترى الأزواج في شهر العسل أو العشاق وهم يستمعون إلى عزف البحّار على الغيتار وهو يغني ألحان الغرام الإيطالية مثل عاشق تحت نافذة معشوقته.

هل تستحق تلك الرحلة الكلفة العالية؟ وهل ستتصرف النساء اللواتي سيقدن القارب مثل الرجال الذين يحبون المساومة على الكلفة الإجمالية ومدة الرحلة المحسوبة بالدقائق عدا عن التكاليف الإضافية للغناء والعزف دون أن نذكر أنه يتوقع منك أن تمنحه بقشيشا مناسبا حسب وضعك الاجتماعي ومنزلتك وسخائك. المؤكد أنك لن تنسى تلك الرحلة الرائعة النادرة مدى حياتك، حتى لو استعرت وصف مارك توين حول البحّار الوغد الجليل!