المأذون.. «يا بخت من وفق راسين في الحلال»

طريقة عمله نظمت في شكلها الحالي عام 1824

مهنة المأذون في مصر لم تعد قاصرة على الرجال، فأخيرا سمحت السلطات المصرية لسيدة بالعمل كمأذونة، رغم معارضة البعض («الشرق الأوسط»)
TT

البعض يسميه «حامل الفرح» وآخرون يطلقون عليه «وش الخير»، إلا أن المثل الشعبي المصري «يا بخت من وفق راسين في الحلال» ربط بينه وبين أجمل ما يتمناه المرء. فما إن يدخل المأذون بيتا لعقد قران حتى تنطلق الزغاريد وتدور أكواب «الشربات» على الموجودين، ويعبق الجو بأغاني الفرح، ومن أبرزها أغنية المطرب الشعبي الراحل محمد رشدي «قولوا لمأذون البلد ييجي يتمم فرحتي»، إيذانا ببدء حياة جديدة بين شخصين، يوثق المأذون بينهما برباط الزواج.

الطريف في الأمر، وعلى النقيض من ذلك، تسقط ذاكرة المصريين لحظات الأسى والمرارة التي تصاحب قرار الطلاق بين الزوجين الذي يتم غالبا على يد المأذون، وتحتفظ له بصورته الفرحة، فكأن الفرح هو الأصل، بل هو الأنقى والأبقى. عن بداية ظهور مهنة المأذون في مصر، يقول الشيخ محمد حنفي مأذون منطقة عابدين بوسط القاهرة، «حتى العصر الفاطمي، كان الزواج يتم شفاهة عن طريق القبول والإيجاب والإشهار بين العروس أو وليها، إذا كانت بكرا، وبين العريس، وعندما دخل الفاطميون مصر استحدثوا عملية تسجيل عقود الزواج وأوكلوا تلك المهمة في البداية إلى القاضي الشرعي، ونتيجة لضغط العمل على القاضي طلب من أحد العلماء أن يساعده وأطلق عليه اسم «مساعد القاضي» وكان يحمل دفترا يقوم بتسجيل بيانات عقود الزواج والطلاق فيه.

يضيف حنفي «في بداية عهد محمد علي بدأ وضع طريقة عمل المأذونية حيث صدر أول تنظيم لها سنة 1824م، وبمقتضاه أصبح العالم الذي يساعد القاضي «نائبا شرعيا» له، وكان القاضي يتولى تعيينه ليساعده في القضايا الصغيرة مثل قضايا الرهون والبيوع وعتق الرقبة، وظل هذا النظام ساريا حتى عام 1884م بعد صدور المحاكم المختلطة فتم تعديل اسم «النائب الشرعي الشريف» إلى «مأذون عقود الزواج والطلاق» واستمر العمل به حتى عام 1899م حيث صدرت أول لائحة تضع نظاما لمن يشغل هذه الوظيفة».

ويوضح حنفي أن اللائحة الجديدة اشترطت أن يكون المأذون من علماء الأزهر الشريف، وأن يكون حنفي المذهب، وأن يكون من أهل المنطقة التي يعمل بها، وأن يتم شغل هذه الوظيفة بإجراء انتخابات بين المتقدمين، ويقول «استمر الوضع هكذا حتى عام 1913م حيث وضعت لائحة ثانية للمأذونين تضمنت شروطا شرعية وإدارية أخرى.. واستمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1956م بعد إلغاء القضاء الشرعي فصدرت لائحة ثالثة لعمل المأذونين تمنع المأذون من الجمع بين وظيفته وأي وظيفة أخرى».

ويشير حنفي إلى أنه حاليا هناك لجنة في كل محافظة يرأسها مستشار بعضوية اثنين من رؤساء المحاكم تتولى تعيين أو فصل أو تأديب المأذونين ومحاكمتهم ومساءلتهم في حالة المخالفة، وقد بلغ عدد المأذونيات في مصر نحو 7500 مأذونية على مستوى كافة المحافظات.

حنفي الذي يعمل مأذونا منذ نحو 35 عاما، رأى خلال سنوات عمله الطويلة «عجب العجاب» على حد تعبيره، فكم من الحالات الغريبة التي مر بها سواء في الزواج أو الطلاق، ويتذكر أن أغرب زواج عقده كان لزوجين، وتصادف أن تعرض الزوج لحادث سيارة في يوم عقد القران ونُقل إلى المستشفى لعلاجه من بعض الكسور، إلا أنه أصر على إتمام زواجه، وبالفعل ذهبت إلى المستشفى وعقدت القران بحضور الأطباء وشهد على العقد مدير المستشفى وأحد أقارب الزوجة.

ويضيف حنفي «حالات الزواج الآن لم تعد كما كانت منذ ثلاثين عاما ففي الماضي كان عقد القران له طقوس معينة منها أن يتم في يوم الزفاف وكان يُعقد في منزل العروس، قبل أن ينتقل العروسان والمدعوون إلى مكان إقامة حفل الزفاف، أما الآن فأغلب الناس يفضلون أن يعقدوا القران في مساجد بعينها، أو في مشيخة الأزهر، الأمر الذي قلل العائد المادي لدى مأذوني الأحياء، الذين أصبحوا يقتاتون من الطلاق فقط!».

وعن أغرب حالات الطلاق التي شهدها حنفي، يقول «أغرب حالة طلاق كانت لزوج في السبعين من عمره وزوجته في الخامسة والستين، وبعد زواج دام 42 عاما شعرت الزوجة ببرود عاطفي تجاه زوجها، الذي أصبح رجلا مريضا، وأصبح يراها «نكدية» فطلبت منه الطلاق، وكان لها ما أرادت».

وعن الفرق بين الزواج الآن ومنذ 30 عاما، يقول حنفي «كان الزواج له مواسم مثل حصاد الزرع أو في عيد الفطر أو عيد الأضحى، أما الآن فأصبح الزواج لا موسم له، وإن كان يكثر في الصيف وفي الأعياد أيضا، كما أن للطلاق مواسم أيضا، من أبرزها موسم دخول المدارس نتيجة لزيادة المتطلبات المادية في تلك الفترات الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الخلافات الزوجية التي قد تنتهي بالطلاق، كما يلعب الفقر وتردي الحالة الاجتماعية دورا مهما في كثرة الطلاق.

أما يوسف عبد السلام، مأذون بحي الهرم، فعلى الرغم من أنه ورث المهنة عن والده، إلا أنه أصر على أن يظهر بمظهر عصري، بعيدا عن صورة المأذون بزيه التقليدي العمامة والجبة والقفطان التي درجت الدراما المصرية على تقديمها سواء في السينما أو المسلسلات التلفزيونية. يرتدي يوسف ملابس تناسب عمره (30 عاما) وهو ما يفسره بقوله «صورة المأذون كما تقدمها الدراما فيها الكثير من المبالغة، سواء في طريقة ملابسه أو طريقة كلامه باللغة العربية الفصحى، أو في طريقة تعامله مع الناس».

ويوضح عبد السلام إنه ورث مهنة المأذونية عن والده الذي عمل في هذا المجال لأكثر من 50 عاما، وعندما كبر سنه تقاعد بعدما علم نجله أسرار المهنة.. «فالهدوء والكياسة والوجه البشوش والقدرة على حل الخلافات» هي أهم السمات التي يجب أن يتميز بها من يعمل مأذونا، في رأي يوسف، ليستطيع أن يعالج المشاكل التي قد تنشأ بين العروسين أثناء عقد القران، أو «عند محاولة الإصلاح بين زوجين يريدان الطلاق، لأن أبغض الحلال عند الله هو الطلاق».

ويقول «أغرب حالات الزواج التي قمت بعقدها كانت لأحد أصدقائي الذي أيقظني من نومي قرب الفجر لأسافر معه إلى طنطا (وسط دلتا مصر) لأعقد قرانه على زوجته، بعد أن طلقها طلقة بائنة وأراد أن يردها إليه بعد محاولات صلح عديدة، وسافرت معه لأعقد القران وتعود المياه إلى مجاريها بين الزوجين».

أما عن أغرب حالات الطلاق التي شهد عليها يوسف عبد السلام، فيقول عنها «لم يكن زواجا لكي يكون هناك طلاق، ولكني ذهبت لأعقد قران عروسين، وفي اللحظة الأخيرة اختلف الطرفان حول تفاصيل مؤخر الصداق وقيمة المهر فلم يتم الزواج».

والمثير أن مهنة المأذون في مصر لم تعد قاصرة على الرجال، فأخيرا سمحت السلطات المصرية لسيدة بالعمل كمأذونة، ورغم معارضة البعض، فإن الرأي العالم استقبل الأمر باعتباره نقلة نوعية تضيف إلى رصيد المرأة في المجتمع، خاصة أن الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية أجاز عمل المرأة في مهنة المأذون، وقال: «إن المرأة الرشيدة لها أن تزوج نفسها وغيرها، وأن توكل في النكاح إذا توافر فيها شرط العدالة والمعرفة»؛ مستندا إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان.

ورغم تعدد صور المأذون في المدينة، فإن صورته في الريف لها وقار ومهابة خاصة، حيث يعد من كبار شيوخ القرية، وغالبا ما يلجأ إليه أهلها في فض النزاعات والمخاصمات العائلية، كما يستشيرونه في الكثير من شؤون حياتهم.. هذه الصورة لمأذون القرية يتذكرها عن قرب الصحافي جمال عبد العزيز، فوالده كان هو مأذون القرية، ويروي جمال أنه كانت لوالده «شمخة خاصة»، وكان مثقفا متفقها في علوم الدين، ملمّا بشؤون الأدب، ويتفنن في إضفاء لمسه جمالية خاصة على ثيابه ومظهره، ولذلك أطلق عليه أهل القرية «الشيخ فخفخة». لكن أطرف ما يرويه جمال عن والده أنه كان لديه عدد من الصيغ لعقد القران، تتناسب والحالة الاجتماعية للعروسين، «فإذا كان العريس ثريا ومن وجهاء القوم أطنب والدي في صيغة عقد القران، مستشهدا بالشعر والنثر وأطيب الحديث، أما إذا كان متواضع الحال اقتصر الأمر على الصيغة التقليدية المختصرة السريعة.. وهلم جرا».

هذه المكانة المؤثرة للمأذون لعبت على ظلالها الدراما العربية سواء في السينما أو التلفزيون أو المسرح، فاحتل اسمه عناوين عدد من الأفلام مثل «إلى المأذون يا حبيبي» بطولة فريد شوقي وصفاء أبو السعود و«البعض يذهب إلى المأذون مرتين» بطولة عادل إمام ونور الشريف وميرفت أمين، وثمة عدد من الأعمال الدرامية كان المأذون بمثابة محرك مستتر وراء تفاصيل وخيوط أحداثها، مثل فيلم «الزوجة الثانية» بطولة سعاد حسني وشكري سرحان، ومسرحية «الواد سيد الشغال» بطولة عادل إمام ومصطفى متولي.

ورغم تعدد الأعمال الدرامية التي تناولت مهنة المأذون فإن جميعها قدمته في صورة نمطية مكررة، لم يختلف عنها سوى فيلم «شورت وفانلة وكاب» بطولة أحمد السقا ونور، الذي قدم المأذون يرتدي «الجينز» باعتباره مأذونا في منتجع سياحي بمدينة شرم الشيخ.