فن «الغرافيتي» يقلق المدن الألمانية مع توجهات جديدة بالرسم على الزجاج

يستخدمون حامض الهيدروفلوريك المضر.. والسلطات تطاردهم بطائرات الهليكوبتر

يعتبر رسام الـ«غرافيتي» البريطاني باكنسي الأشهر في العالم وعلى الرغم من أنه يتنقل في جميع دول العالم لكنه ما زال مجهول الهوية («الشرق الأوسط»)
TT

يمكن لبعض رسومات الـ«غرافيتي» أن تضفي نوعا من الجمال والألوان على الجدران المهملة والمحطات والمصانع القديمة، لكن استخدامها على جدران الكنائس والقطارات والمعالم الأثرية يعرض من يمارسها لعقوبات شديدة.

ويبدو أن المشكلة مع الـ«غرافيتي» في المدن التاريخية الألمانية تعدت حدود المعقول منذ سنوات بعد انتشار ظاهرة رسم الـ«غرافيتي» على الزجاج باستخدام حامض الهيدروفلوريك الذي تصعب إزالته بسهولة، والذي يشكل خطرا على البشر أيضا. ويقول أحد خبراء الشرطة في مكافحة الـ«غرافيتي» أن تكلفة إزالة آثار الـ«غرافيتي» الحمضي تعادل تكلفة إزالة 15 «غرافيتي» مرسومة بالألوان الاعتيادية السائدة.

واتخذت مطاردة رسامي الـ«غرافيتي» في كولون مؤخرا بعدا هوليووديا مثيرا بعد أن استخدم رجال الشرطة طائرات الهليكوبتر لمطاردة 3 مشبوهين رسموا بالـ«غرافيتي» الحمضي على شابيك ثلاثة ترامات تعمل في المدينة. وكان مجهولون، قبل أيام، قد لوثوا معظم الواجهات الزجاجية في محطة «هانزا رنج» بحامض الهيدروفلوريك الملون. وتخشى شرطة المدينة أن تشمل «الاعتداءات» الواجهات الزجاجية للمتاحف وكاتدرائية المدينة الضخمة التي تجتذب ملايين السياح سنويا.

قبل كولون كانت العاصمة برلين مسرحا لمطاردة رسامي الـ«غرافيتي» الحمضي، وتقول شرطة العاصمة إن الظاهرة تتفشى باستمرار. واتضح من خلال اعتقال رسامين اثنين في برلين ورسام آخر بهامبورغ أن معظم هؤلاء الرسامين يأتون بشكل مجاميع سياحية من الخارج ليمارسوا فنهم التخريبي. فكان أحد المعتقلين ببرلين شابا مجريا والآخر فنلنديا، بينما كان المعتقل بهامبورغ ليتوانيا. وكان الليتواني الأخير مسؤولا عن الرسم بالحامض على واجهات المحطات والقطارات في 15 حالة.

وهذا لا يستثني الألمان بالطبع، لأن الشرطة اعتقلت شابا من مدينة «فينزن» كان مسؤولا عن 21 رسما، وشملت رسومه شبابيك كنيسة المدينة التي تعود إلى العصر الباروكي. ويعتقد رجال الشرطة أن الألمان، بحكم معرفتهم الجيدة بمدنهم وحواريها، أكثر قدرة على التخفي والتسلل من وإلى المحطات من الأجانب. وأصدرت محكمة برلين عام 2008 حكما بالسجن لمدة ثلاث سنوات على 3 ليتوانيين لوثوا جدران المحكمة المركزية الجديدة بالـ«غرافيتي» الحمضي. وبرر النائب العام رالف رويتر هذه العقوبات الشديدة بأعمار الشباب التي تخطت العشرين، مشيرا إلى أن استخدام حامض الهيدروفلوريك يعتبر جريمة مع سبق الإصرار والترصد، لأن الجميع على معرفة بضرر الحامض على معالم المدينة، وبضرره الصحي على الإنسان.

ووضعت المدينة مكافأة قدرها 2000 يورو لمن يبلغ عن مجهول يرسم الـ«غرافيتي» الحمضي بأشكال متماثلة على واجهات القطارات ببرلين. وذكر رويتر أن الرجل شديد الذكاء لأنه صار يعمل في النهار كي يتجنب كمائن الشرطة التي تنصب له عادة في المساء. وتقود بلدية المدينة حالية حملة توعية في المدارس ضد الـ«غرافيتي» الحمضي بالنظر لتورط الشباب من سن المدارس في هذه الممارسات.

وأحصت مدينة برلين هذا العام أكثر من 200 حالة تلويث للواجهات والقطارات بالحامض، وبلغت تكلفة إزالة الـ«غرافيتي» (عموما) نحو 50 مليون يورو. وكان عدد هذه الحالات عام 2006 لا يزيد عن 94 حالة، الأمر الذي يشي باستشراء الظاهرة على الرغم من العقوبات المشددة. وهناك حب غريب لممارسي الرسم بالحامض لكابينات الهاتف الزجاجية، وواجهات المحطات، وواجهات المحلات، وزجاج القطارات وأحيانا الكنائس والأبنية الأنتيكة.

وعقدت دائرة حماية الدستور الاتحادية (الأمن العامة) اجتماعا مع قادة فروعها في الولايات الألمانية لبحث استراتيجية مكافحة رسم الـ«غرافيتي» الحمضي. وساهم في الاجتماع خبراء في علم النفس، وأساتذة جامعات، ومديرو مدارس، ومديرو السكك الحديدية.. إلخ، وقرروا الاتصال بشرطة البلدان الأوروبية القريبة للتعاون معها في مكافحة الظاهرة. وذكر ممثل السكك الحديدية في الاجتماع أن دائرته أقامت دعاوى ضد مجهولين في 24 ألف حالة رسم «غرافيتي»، وبلغت خسائرها من الظاهرة نحو 50 مليون يورو، وكانت حصة فرانكفورت من الخسائر نحو 270 ألف يورو.

ووصف البروفسور ماتياس دريس، من قسم الكيمياء في جامعة برلين، حامض الهيدروفلوريك بأنه حامض ضعيف لكنه شديد الخطورة ومقرّح. ولذلك يستخدم ممارسو الرسم به أقلاما من سيراميك لتجنب التصاقه بملابسهم وعيونهم وأياديهم. وسر ضعف هذا الحامض أنه يتكون من أيونات هيدروجينية موجبة الشحنة وأيونات فلوريدية سالبة الشحنة ويتحلل بسهولة. وتتحد أيونات الفلوريد السالبة مع أيونات السيليكون الموجبة، الموجودة في مادة الزجاج، فيتسبب بتخريش الزجاج.

أما خطورته على الإنسان، فتكمن في أيونات الهيدروجين التي يحتويها، فهذه الأيونات تتسلل من جلد الإنسان بسهولة إلى الأنسجة، وتتفاعل مع المواد في الأنسجة لتنتج الماء وتتجنب بالتالي نظام المناعة الجسدي.

وترتبط أيونات الهيدروجين في الأنسجة مع ذرات الماغنسيوم والكالسيوم لتشكل مادة خطيرة قادرة على تحطيم عمل كثير من الإنزيمات المهمة في جسم الإنسان. وهذا يبعث الاضطراب في عملية الاستقلاب ويسبب تسمم الكبد والكليتين. وعدا عن القروح العميقة التي يتركها في الجلد، فإن أيوناته، التي تتسلل إلى الجسم، يمكن أن تبعث الاضطراب في عمل القلب، بل وأن تصل إلى نخاع العظام أيضا. لكن أكبر خطر على حياة الإنسان يتأتي من استنشاق أبخرته المتطايرة التي تسبب التهابات رئوية مزمنة. وتقول شركة «لانكس» للصناعة الكيماوية، وهي أحد أهم منتجي حامض الهيدروفلوريك، إن مبيعات الحامض في رواج على الرغم من أنها رفعت أسعاره بنسبة 20 في المائة بهدف إبعاده عن أيدي الشباب. والمقلق للشرطة، وللشركة المنتجة أيضا، أن أقلام الحامض تباع على الإنترنيت لقاء 30 يورو للقلم الواحد. والسعر مرتفع، لكن هواة الرسم الحمضي لا يهمهم السعر أكثر مما يهمهم التخريب.

ونصح فولفغانغ فريبه، خبير الـ«غرافيتي» في بلدية مدينة مونستر، المتضررين من أعمال الرسم بالحامض باستخدام رمل جديد منخفض الإشعاعات يمكن له أن يزيل آثار الحامض وأن يوقف خطر تطايره والتصاقه بملابس الناس في الشوارع والساحات. وقال فريبه إن الرمل يزيل الحامض وأثره على الزجاج، ويحتاج المستعمل إلى ما قيمته 25 ـ 50 يورو للمتر المربع لإزالة أثر الحامض. وقدر الخبير تكلفة الطرق الأخرى، باستخدام المواد الكيماوية المضادة، بنحو 40 ـ 70 يورو للمتر المربع.