منصور الرحباني يعود محرضا على الموت أو الحرية في «صيف 840»

«مهرجانات جبيل» تختتم برنامجها بتحية للفنان اللبناني

مشهد من المسرحية («الشرق الأوسط»)
TT

«لمعت أبواق الثورة، سكن الحقد المسافات.. قوّي قلبك وهْجوم يا بتوصل على الموت يا بتوصل عالحرية». هكذا كان يغني جمهور «صيف 840» بصوت واحد وقوي، مساء أول من أمس، حين أشرفت مسرحية منصور الرحباني التي كتبها منذ 22 سنة على نهايتها المؤثرة، وها هي تقدم مستعادة، تحية له، في «مهرجانات جبيل» بعد سبعة أشهر على رحيله.

الجمهور حاشد، على الرغم من أن كثيرين كانوا قد شاهدوا هذا العمل عام 1987 حين جاب لبنان، ليصل إلى الناس، بسبب تقطع الطرقات وتشرذم البلاد بين الميليشيات في حرب أهلية مدمرة. اليوم تقدم المسرحية في أجواء من الوئام، وبحضور سياح جاءوا لبنان للمتعة والأنس، ومع ذلك بدا المضمون العام، لهذا العمل، وكأنه طازج وخارج للتو من بين أصابع منصور وقريحته الغاضبة والمتمردة، فيما الناس لا يزالون مستعدين، نفسيا على الأقل، لثورة جديدة، وكأنما الثورات الماضية لم تغير شيئا من واقعهم.

عاد بطل منصور الرحباني الثائر «سيف البحر» (غسان صليبا) مع أهل العامية، ليقسموا اليمين على انتفاضة تضم كل الطوائف والمذاهب، ضد الأمير بشير المتواطئ مع المصريين والفرنسيين في 7 مايو (أيار) 1840. امتلأ المسرح بالثوار المنتفضين على الفقر والظلم والضرائب الجائرة: «خلص زمن الحكي وصار وقت الثورة، هْجموا انتوا الشعب، ما حدا غير الشعب بيعمل ثورة». ويبدأ الرقص الفلكلوري اللبناني تحت رايات مختلفة تلوح عالية فوق رؤوسهم، كناية عن التمزق بين ولاءات خارجية مختلفة، لينطلق العمل مستفيدا من كل أدوات القرية اللبنانية وعدة الحروب: الفؤوس والبنادق والسيوف والسراويل، كما الألوان الزاهية التي تميز اللباس التقليدي النسوي. وإذا كانت الحوارات والأغنيات البديعة قد استعيدت بنسختها الأصلية، فإن التعديلات على الرقص كما تطوير السينوغرافيا، انعكس إيجابا على تشكيل اللوحات البصرية. فالمسرح المفتوح في جبيل على البحر والجبل والفضاء، له بهاؤه الخاص، وعرف الرحابنة (أولاد منصور القيمين على العمل) كيف يستغلونه، باستخدام تجهيزات ضخمة في الإضاءة، كما في توظيف سحر المكان. هيئة المباني المرتكزة على القناطر، والحيطان المتحركة كما فتح المسرح على جهة علوية من الجبل الخلفي ليستخدم كمكان لهروب الثوار، بعد إضاءته وتزويده بالأسلاك، أضاف بعدا جديدا للخشبة. تنويع الإضاءة لتغيير حجم الخشبة تكبيرا أو تصغيرا، جعل الإبقاء على شكل واحد للديكورات ممكنا من دون إحساس بالرتابة. العودة إلى الأمراض اللبنانية السياسية، والانقسامات الداخلية، مع نقد السياسيين المرتهنين للخارج باستمرار، في وجود كبار المسؤولين مثل فؤاد السنيورة ووزراء كثيرين، لا يزال موضع ترحيب وتصفيق من الناس، وكأنهم لم يضجروا من تكراره. هكذا كان وجود اليوزباشي عساف الضاهر (أنطوان كرباج) المتحالف مع إبراهيم باشا، وجنوده المصريين إضافة إلى الفرنسيين، للقضاء على الثوار ركنا أساسيا لاستكمال المشهد اللبناني في مواجهة الثوار الذين سرعان ما يقعون في حبائل التحالف مع الإنجليز والعثمانيين لضمان نجاحهم. شخصية أبو إلياس (بول سليمان) الذي يستجدي عطايا كل المتدخلين الأجانب، ويعمل على مختلف الجبهات، لتكديس بعض المال، وحفظ الرأس عند تغير العهود، نموذج لكثيرين باعوا ضميرهم الوطني، من أجل حفنة من المال. لكن الثوار هم الذين يفترض أنهم يعملون من أجل الحرية. بانتصار الثورة يعود العثمانيون إلى لبنان، ويعين الإنجليز واليا على العباد، وكأنما لا ثورة حصلت ولا تحرير تحقق. قصة الحب التي تبنى عليها عادة، المسرحيات الغنائية قامت هذه المرة بين زعيم الثوار سيف البحر وابنة عدوه اللدود اليوزباشي عساف. ولتحقيق الإثارة المطلوبة فإن ميرا ابنة اليوزباشي (هبة طوجي التي أخذت دور هدى حداد في النسخة القديمة) ترفض الزواج من القائد المصري في لبنان الذي يريد والدها تزويجها منه بالقوة وتهرب مع سيف البحر، ليلة العرس، لتصبح واحدة من الثوار. والعرس الذي لا يتم، ويحضره قناصل الدول الأجنبية يعطي فرصة للتنويع في الملابس والغناء بلهجات مختلفة خاصة المصرية، واستخدام الفرنسية. تلاوين تساعد على تقديم لوحات من الدبكة والرقص يشارك فيها ـ بحسب النص ـ جنسيات لها تقاليدها وتمايزها، مما يجعل الفرجة تبلغ أوجها، خاصة حين يتم الإعلان عن وصول فرقة قروية تريد الاحتفاء بزواج ابنة اليوزباشي. يسمح للفرقة بالانضمام إلى المحتفلين، فيدخل هؤلاء ملثمين ويبدأون بالمشاركة في الغناء والابتهاج والرقص. لكن مع إنهاء هذه اللوحة الاستثنائية يظهر الوجه الحقيقي للثوار الملثمين الذين سرعان ما يبدأون المعركة التي يخطف خلالها سيف البحر حبيبته في ليلة عرسها، ويهرب بها باتجاه الجبال، أو تلك الخلفية الجبلية للمسرح التي أدت غرضها في هذه اللحظة.

انضمام ميرا أو هبة طوجي التي لعبت دورها ببراعة إلى الثوار، يفسح في المجال لتشكيل عوالم جديدة، وتقديم وصلات غنائية وراقصة من نوع آخر، تستخدم فيها أدوات القتال، وتنتعش أغنيات الحب والوصل والفراق والخوف على الحبيب من الموت والضياع. وبعودة العثمانيين والإنجليز الذين يقصفون بيروت، ويملأون المسرح غبارا من جهة مرفأ جبيل، يشعر الثوار أنهم انتصروا على الرغم من الخراب الذي حلّ، وترفع اليافطات للترحيب بالمحتل الجديد، ربما أكثرها إثارة للسخرية تلك التي تقول: «نعم للسلطة العثمانية، لا للاحتلال الأجنبي». لكن سيف البحر وحده يتمرد ويقول: «أنا بدي قاتل ليفلوا كل المحتلين». عندها ينفض الجميع عنه، ومعهم حبيبته ميرا التي ترفض أن تنتظره حتى يندحر آخر أجنبي. لحظتها وعلى الصخرة التي أقيمت وسط المسرح، يبقى سيف البحر وحيدا، حاملا رايته، ويغتال بالرصاص. على الأثر تعود ميرا ومعها الثوار، متراجعين عن موقفهم القديم مصممين على الحرية. وتعتلي ميرا الصخرة لتنضم إلى جثة حبيبها وهي تحمل رايته الحمراء العملاقة المرفرفة، تخبط على الصخرة برجليها وتغني: «لمعت أبواق الثورة، سكن الحقد المسافات... قوّي قلبك وهْجوم يا بتوصل على الموت يا بتوصل عالحرية»، وينضم الجمهور بتلقائية إلى اللحن الحماسي الثائر، في إشارة قوية إلى أننا أمام شعب لا يزال يشعر بالاحتلال، وأن الطريق لا يزال طويلا وشائكا. تحية موفقة إلى روح منصور الرحباني الذي ابتدأ مشواره منفردا بعد غياب عاصي بهذه المسرحية. وهي مسرحية مختلفة عما كتبه بعدها، خاصة لجهة قيام حواراتها بشكل أساسي على الغنائية، والاهتمام بالكلمة المنتقاة على حساب البهرجة البصرية الفائضة. عمل أهداه منصور يومها إلى روح عاصي، وهو شبيه به ويليق بالأخوين رحباني وذكراهما العطرة. تعرض المسرحية حتى 12 من أغسطس (آب) الحالي، وسط إقبال كثيف.