«عمارة الفقراء».. حلم يتنفس في بيوت الأثرياء

دشنها المعماري المصري الشهير حسن فتحي وكرس لها جل حياته

مركز الحرف التقليدية في الفسطاط المبني على الطراز المعماري الذي دشنه حسن فتحي
TT

«عمارة الفقراء»، الحلم الذي كرس له حياته المعماري المصري الشهير حسن فتحي، ورسم من خلاله فرص الحياة لمحدودي الدخل والطبقات الفقيرة، والحق في أن يكون لهم بيت بسيط، تنهض مفرداته على عناصر البيئة الفطرية الطبيعية الموجودة في واقعهم.. هذا الحلم تحول مساره الاجتماعي والمعماري، وأصبح يراه الكثيرون مجرد تقليعة تلبي رغبة الأثرياء في قضاء ليالٍ صيفية وشتوية بطعم مصري أصيل.

فعلى شاطئ البحر المتوسط، وفي المنتجعات الفاخرة، تحولت «عمارة الفقراء» لخطوط شكلية، ذات بريق نهم، فلا هي قليلة التكلفة ولا هي تلتفت لعناصر بيئتها.

تعلق على ذلك الدكتورة سوزان مالكة أحد العقارات المبنية على طراز حسن فتحي بإحدى القرى السياحية، فتصف هذا التحول من وجهة نظرها بأنه «نزوع قيمي أخلاقي.. ربما يحمل قدرا من السذاجة». وتضيف: «القيم الجمالية ليست ملكا لأحد.. حتى إن لم تحقق الفكرة المعمارية قدرا مما كانت تطمح إليه، فيكفيها أن تلبي حاجتنا إلى جماليات خاصة بتراثنا.. وأعتقد أن أثرياء مصر يشاركون فقراءها هذا التراث».

المسحة المنطقية في كلام الدكتورة سوزان تكشف ضمنيا عن مدى اغتراب نموذج عمارة حسن فتحي عن البيئة المزروع فيها، أو المنزوع منها، وعلى العكس من ذلك تبدو إطلالة هذا النوع من المعمار على بحيرة قارون بقرية تونس في محافظة الفيوم أكثر جمالا، على الرغم من إحساس ما بالتنافر بينه وبين البيوت الإسمنتية التي يسكنها الفقراء هناك، كما يؤكد في الوقت نفسه افتقار أهل هذه البيوت للوعي بجماليات هذا النوع من المعمار ومدى انسجامه مع معطيات البيئة.

يقول الدكتور المهندس جمال إسماعيل «إن حسن فتحي كان يبحث في الأصل عن معنى اجتماعي وجمالي يتحقق عبر عمارة يبنيها الفلاح المصري وتبنيه، فبالنسبة لحسن فتحي.. يستطيع رجل واحد ـ بالكاد ـ بناء بيته، لكن عشرة رجال سيكون بمقدورهم ببساطة بناء عشرة بيوت».

يضيف إسماعيل «سطو الأثرياء على الفكرة ليس وليد اليوم. صحيح أننا نراها الآن وقد غزت الكثير من المنتجعات الراقية على شواطئ مصر إلا أنها ومنذ اللحظة الأولى لميلادها تطورت في أحضان الأرستقراطية المصرية في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين».

كانت فيلا «دار السلام» المملوكة للسيدة ازابيل جارفيس هي تاسع مشروع ينجزه حسن فتحي، غير أنها كانت أول المشروعات التي حملت الطابع الذي سيلازمه فيما بعد. وفي العام نفسه شيد فتحي فيلا طاهر العمري بك التي حملت تحولا مثيرا في فلسفته باتجاه العمارة المحلية بعد سنوات من تأثره بالمعمار الغربي الذي ظل حتى عام 1938 يظهر من آن لآخر في أعماله. كان حسن فتحي القاهري الذي تشكلت علاقته بالريف عبر نافذة القطار، يفكر في إجابة عن سؤال بدا صعبا؛ كيف تمكن الفلاح المصري من بناء بيته الخاص، في حين عجز الإقطاعي، الذي يملك الأرض، عن تحمل كلفة بناء منزله؟ كانت الإجابة بسيطة؛ الأمر يتعلق بقدرة الفلاح على بناء بيته بنفسه، ومن الطوب اللبن الذي تجود به الأرض، الذي لا يتطلب تحضيره إلا أياما يقضيها تحت الشمس ليجف. إن مادة البناء هذه لم ترد ضمن برامج التعليم الحديثة، لذلك اعتبر اللجوء إليها ضربا من العبث أو الهزل.

«واقع الريف المصري تغير كثيرا» هذا ما يؤكده المهندس محمد عبد الحميد، ويضيف «تظل أفكار حسن فتحي شديدة الرقي، لكنها مع الأسف مثالية أكثر من اللازم، ولا يمكن تحقيقها في الريف المصري، فلا الناس لديها الوعي بالقيمة الاجتماعية والجمالية التي يطرحها معمار حسن فتحي، ولا هو ملائم لضروريات التوسع الرأسي التي يفرضها الواقع الاقتصادي والجغرافي، ولا ننسى غياب الظهير العمراني الذي فرض اختيار حل من اثنين التوسع الرأسي أو تآكل الأراضي الزراعية». حين عرض حسن فتحي أفكاره عام 1937 عن البناء بالطوب اللبن بما يسمح بإنجاز عمارة رخيصة التكلفة تراعي القيم الجمالية وتحقق الرفاهية المفقودة في بيوت الفلاحين، كان أول من تلقف أفكاره هم أبناء الأرستقراطية العريقة. ومع بداية الأربعينات بدأ فتحي نقل أفكاره لحيز الواقع. لكن المشروعات توقفت حين أدرك أنه لم يطور أفكاره على نحو كامل. كان السقف هو جوهر الأزمة. كيف يمكن تشييد سقف دون دعامات، فوجودها ضروري، لكنها مع ذلك تعيد المشروع إلى حقل النقطة صفر، بقدر ما ترفع كلفة البناء.

لم يخرج المشروع من عثرته إلا حين تذكر حسن فتحي التقنيات التي شاهدها عام 1941 في زيارته لقرية أسوان. وعلى الرغم من كون القبو أحد أقدم وسائل التسقيف في العالم فإن أسراره ظلت حكرا على البنائين المحليين، وهو من الناحية الإنشائية يعد خداعا للجاذبية، إذ يعمل كوحدة واحدة تمرر الأحمال من هيكل السقف باتجاه الجدران التي تحمله. وقد استعان فتحي بمعماريي أسوان الذين تناقلوا أسرار بناء الأقبية بلا دعامات جيلا بعد جيل وحققوا نجاحا مبهرا.

«ليس صحيحا أن أفكار حسن فتحي المعمارية مثالية ولا يمكن تطبيقها» هكذا يعلق المهندس جمال إسماعيل الذي يضيف «هناك تغير طرأ على القرية المصرية لا يمكن إنكاره، لكن هذا لا يعني أن أفكاره لم تعد صالحة، بل على العكس، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نستعين بأساليب حسن فتحي، وهو أمر لن يتحقق إلا إذا دعمته الدولة، ولنتذكر حين دعمت الدولة أفكاره سابقا في مشروع (القرنة) كنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا الحلم، على الرغم من فشل المشروع، لكن هذه قصة أخرى».

بدأت القرنة تظهر في كتب المؤرخين منذ نهايات القرن الثامن بوصفها قرية صغيرة تقع في أحضان الجبل المطل على وادي الملوك. كانت المساحة المزروعة لا تكفي لسد حاجة أهلها الذين لم ينتظروا خير الأرض بل ذهبوا للبحث عنه في مقابر أجدادهم. وحين بدأت القرنة تشكل أزمة حقيقية للأثريين المصريين كان عدد ساكنيها قد راوح السبعة آلاف نسمة، وكانت العقبة الأساسية هي من أين يمكن تدبير تمويل يكفى لدفع التعويضات اللازمة لهؤلاء الفلاحين بالإضافة إلي إعادة تسكينهم.

خلال تلك الفترة كان عثمان رستم مدير قسم الهندسة والحفريات على علم بإنجازات حسن فتحي في بناء عمارة قليلة التكلفة، فعرض الأمر على الأب درايتون المدير العام لمصلحة الآثار حينها، الذي سبق أن سمع الاقتراح نفسه من مسيو ستوبلير مدير قسم الترميم بالمصلحة.

البيروقراطية العتيدة وطبيعة أهل القرنة حالوا دون نجاح المشروع. هذا ما يؤكده الدكتور جمال إسماعيل ويضيف «لاحقا.. حين عاد حسن فتحي بأفكار أكثر اكتمالا من أثينا دعمت الدولة مشروعه في واحة الخارجة حيث وضع تصورا متكاملا لقرية باريس الجديدة استخدم فيها تقنيات (ملاقف) الهواء التي تجعل درجة حرارة البيت 15 درجة مئوية في واحة الشمس».

يكمل إسماعيل حديثه.. «لو أن الدولة استثمرت أفكار حسن فتحي المعمارية، وأفكار رشدي سعيد الحضارية عن وادٍ موازٍ لوادي النيل لأمكن تحقيق إنجاز حضاري حقيقي».

ويخلص المهندس محمد عبد الحميد بتساؤل يبدو منطقيا: «لو لم يستفد أحد بإنجازات حسن فتحي فما الضرر من أن يستفيد منها الأثرياء في بناء فيللهم».

ويضيف: «أشعر براحة غير عادية في بيت على طراز حسن فتحي.. لو أحببت سمها فيلا، هذا تراث مصري أصيل وليس ملكا لأحد». وتختتم الدكتورة سوزان كلامها الذي يؤكده الروائي المصري جمال الغيطاني في مقدمته لكتاب حسن فتحي «عمارة الفقراء»: «أصبح فكر سيد البنائين المصريين حسن فتحي ملكا للإنسانية كلها، أفكاره المعمارية تتجسد في مصر وأميركا وأوروبا وآسيا.. إنها ليست مجرد أفكار هندسية.. ولكنها بحث أصيل ودؤوب في الشخصية والهوية والتراث المعماري والفكري والحضاري للشرق».