قائمة الطعام على كوكب المريخ!

أكثر من 6570 وجبة ما بين إفطار وغداء وعشاء لإطعام 6 أشخاص كل يوم على مدى أكثر من 3 أعوام

د. غريغ غوينس من مركز كيندي سبيس سنتر في فلوريدا أثناء عمله في غرفة تجارب يمكن استخدامها بواسطة رواد الفضاء لزراعة بعض المحاصيل («لوس انجليس تايمز« و «ناسا»)
TT

جلست ميشيل بيرتشونوك تتأمل في طبق معكرونة بالجبن خارج مطبخ تجريبي في مركز فضاء جونسون التابع لوكالة ناسا. وقد قُدم هذا الطبق مرات لا تحصى داخل المكوك الفضائي ومحطة الفضاء الدولية. وعندما يكون رواد الفضاء بعيدين جدا عن منازلهم، فإن هذا هو الطعام المريح الذي يتوقون إليه.

ولكن، لن يكون هذا الطبق تحديدا على قائمة طعام رواد الفضاء عندما ينطلقون إلى كوكب المريخ، وهي الرحلة المقرر القيام بها في وقت ما قريب من 2030، حيث إن هذا الطعام يتأثر بالرطوبة والأكسجين، ولذا فإن المعكرونة يمكن أن تفسد قبل أن تؤكل. والخيارات الأخرى، مثل وضع الطعام في علب مصنوعة من شرائح معدنية خارج النقاش لأن هذه العلب ثقيلة جدا.

وتقول بيرتشونوك، مديرة قسم تقنية الغذاء المتقدم بوكالة ناسا: «نود تجاوز هذا الأمر بحلول 2015 أو 2016».

وتعد هذه إحدى القضايا التي يجب على الفريق التابع لها، والذي يبلغ قوامه 15 عالم أغذية، بحثها في الوقت الذي يعدون فيه قائمة طعام خفيفة وذات قيمة غذائية ومذاق حسن، ويمكنها البقاء خلال مهمة تستمر أعواما على الكوكب الأحمر. وهناك عدد كبير من العوائق التقنية التي يجب على وكالة ناسا أن تتجاوزها قبل أن ترسل بشرا إلى الكواكب الأخرى. وسيكون على مهندسي الطيران التحكم في اهتزاز مركبة إطلاق «آريس1» بعنف خلال عملية الانطلاق. ويجب على خبراء صلاحية استخدام مواد تصميم ملابس فضاء أكثر مرونة، وسيحتاج علماء المواد إلى تشكيل مادة لتمتص الحرارة الشديدة التي سوف تحدثها مركبة «أوريون» وهي تمر عبر الغلاف الجوي لكوكب الأرض بسرعة 25.000 ميلا في الساعة.

وربما لا تكون مهمة فريق تقنية الغذاء ذات صلة بعلوم الصواريخ، ولكنها لها القدر نفسه من الأهمية لضمان نجاح مهمة البعثة.

تخيل أن عليك تعبئة أكثر من 6570 وجبة، ما بين إفطار وغداء وعشاء، ووجبات خفيفة تكفي لإطعام ستة أشخاص كل يوم على مدى أكثر من ثلاثة أعوام. وفكر في تجهيز هذه الوجبات على ضوء تخصيص 3.2 رطل من الغذاء لكل شخص كل يوم، أي أقل بمقدار الثلث عن متوسط ما يأكله الأميركي كل يوم على كوكب الأرض. وتخيل أن كل طبق يجب أن يكون صالحا للتناول على مدى خمسة أعوام. وتخيل أن عليك نقل جميع هذه الوجبات إلى مائدة طعام تقع على بعد 55 مليون ميل.

ولا يبدو على بيرتشونوك أي إحساس بالخوف، فإعداد قائمة طعام لكوكب المريخ مجرد مشكلة علمية سوف تحل مثل أي مشكلة أخرى. وتقول: «سوف نحلها لأننا لن نطير ما لم نتمكن من القيام بذلك، ولا أريد أن أكون الشخص المسؤول عن هذا الأمر».

فكّر في الطعام الذي يمكن أن يتناوله رواد الفضاء، وستأتي إلى مخيلتك صور الآيس كريم المثلج المجفف والتانغ (الذي ابتكرته شركة «جنرال ميلز» وليس وكالة ناسا).

ولم تكن عمليات الغزو الأميركية الأولى للفضاء بالطول الذي يجعل هناك مللا من الطعام الذي يقدم. وعندما وصلت الرحلات إلى مسافات أطول، كان يحصل رواد الفضاء على طعام شهي لذيذ أعد بالأساس للطيارين الذين يقودون طائرات التجسس «يو تو».

ويقول بول لاتشانس، الأستاذ المتقاعد المختص في الأغذية وعلوم الطعام في جامعة روتجرز، الذي عمل في برنامج تغذية رواد الفضاء التابع لوكالة ناسا خلال الستينات، إن الطعام «كان مثل أنبوبة معجون أسنان مليئة بحساء خضراوات».

وكانت هناك بعض التساؤلات العلمية الأساسية في الرحلات الأولى. «هل سوف يطفو الطعام أم سوف يهبط إلى الأنبوبة الخطأ؟ كانوا يريدون أن يروا أنهم لن يعجزوا عن استخدامها».

وعندما جاءت رحلات «أبوللو»، كانت الوجبات تشبه الطعام الحقيقي، حيث كان يتناول مثلا في وجبة الإفطار فطائر نقانق مجففة وكوكتيل فواكه، وفي وجبة العشاء معكرونة مع صوص لحم. وفي الوقت الحالي، نجد أن مطبخ الفضاء أصبح أكثر تطورا، وتضم الأطباق المفضلة داخل المكوك في بعثات محطة الفضاء كوكتيل جمبري مجفف ومبرد، وفاهيتا بقرية، وفطيرة بالتوت معلبة. ولكن لم يتمكن سحرة المطبخ التابعون لوكالة ناسا من تجهيز بعض الوجبات الأخرى، فلم يستطيعوا على سبيل المثال إعداد بيتزا بجاذبية صفرية، لأن الفطيرة تحتاج إلى الحفظ بطريقة تختلف عن طبقة الجبن التي تعلوها. ولم يتمكنوا من عمل كيك الجبن الذي يبقى صالحا بعد عملية الحفظ من دون أن يتصلب.

للمذاق أهميته، ولكن يعد أمن الغذاء هو الهم الأكبر بالنسبة لرواد الفضاء الذين لا يستطيعون الحصول على رعاية طبية متطورة. ولدى ناسا استراتيجيات عدة للحفاظ على الطعام صالحا للأكل لمدة عامين، كما هو مطلوب لمحطة الفضاء.

ويتم وضع الأشياء المطبوخة في عبوات مرنة وتثبيت حرارتها في وعاء ضغط صناعي. وتقوم الحرارة الناتجة من العملية بقتل الجسيمات الصغيرة، وتجعل العبوة مثل الأطعمة المعبأة. وتستخدم الإشعاعات لجعل أطباق اللحوم صالحة للتخزين في درجة حرارة الغرفة لمدة عامين. ويحرم الطعام المبرد والمجفف البكتيريا وغيرها من الجسيمات من الماء الذي تحتاج إليه للتكاثر. ولهذا النوع من الأغذية نتيجة جيدة على المكوك، لأن وحدات الوقود في مركبة الفضاء تنتج المياه كمنتج ثانوي. ولكن، سيكون هناك مقدار قليل من المياه على كوكب المريخ، مما يجعل هذه التقنية ذات أهمية تطبيقية أقل.

ويحتاج الطعام الذي سوف يرسل إلى كوكب المريخ إلى فترة صلاحية أطول، حيث ستستغرق الرحلة (6 ـ 8) أشهر على الأقل للذهاب إلى كوكب المريخ عندما يكون كوكبا الأرض والمريخ أقرب ما يكون من بعضهما، ويحتمل أن يقيم رواد الفضاء على الكوكب الأحمر لمدة عام ونصف العام حتى يمكنهم بدء رحلة العودة إلى كوكب الأرض مرة أخرى عندما يقترب الكوكبان من بعضهما. وإذا قررت وكالة ناسا إرسال الطعام قبل انطلاق رواد الفضاء في رحلتهم هذه داخل مركبة منفصلة، فإنه سيكون على هذه الوجبات البقاء لمدة خمسة أعوام.

ربما تبقى بعض المواد الموجودة بقائمة المحطة الفضائية آمنة وصالحة للأكل على امتداد هذه الفترة الطويلة، لكن من غير المحتمل أن تبقى مثيرة للشهية.

جدير بالذكر أن ما يطلق عليه «تفاعل ميلارد»، هو تفاعل كيميائي بين الأحماض الأمينية والسكر يتسبب في تحول لون الطعام إلى البني، حتى ولو كان محفوظا داخل وعاء معدني أو أي نمط من أنماط التغليف الأخرى. إلى جانب ذلك، قد تسفر أي كمية صغيرة من الهواء عن حدوث عملية أكسدة، مما يفسد الطعام وكذلك الفيتامينات والمواد المعدنية الموجودة به. حال تسرب أي كمية من المياه إلى داخل حقيبة بها طعام، فإنها تعزز نشاط مختلف أشكال الحياة المجهرية، وتبدل لون ومذاق وقوام الطعام. وعلقت بيرتشونوك على ذلك بالقول: «ستحدث تفاعلات كيميائية هناك». وسعيا لإبطاء التفاعلات الكيميائية المحتومة، تعكف وكالة «ناسا» على صياغة تقنيات ألطف بمقدورها قتل الجرثومات اعتمادا على درجة حرارة أقل، بحيث يستغرق الطعام فترة زمنية أطول كي يفسد. من بين أكثر الإجراءات المرشحة على هذا الصعيد عملية التعقيم المعتمدة على الضغط أكثر من اعتمادها على درجة الحرارة.

بعد إحكام الإغلاق على طعام داخل محفظة، يجري تسخينه لدرجة حرارة متوسطة تبلغ 250 درجة على مدار ثلاث دقائق. ثم يتم وضع المحفظة الحاوية للطعام في اسطوانة، تجري تعبئتها لاحقا بالماء بهدف خلق 100.000 رطل لكل بوصة مربعة من قوة الضغط لمدة نحو خمس دقائق ـ وهي مدة كافية لسحق خلايا أي ميكروبات خطيرة تموج في الداخل.

يذكر أن الأمر استغرق تسع سنوات كي يتمكن فريق حكومي يضم باحثين أكاديميين وصناعيين من جعل هذا النظام القائم على قوة المياه الضاغطة فاعلا بالنسبة للأغذية منخفضة الأحماض، المعرضة على نحو خاص لأنماط معينة من الجراثيم. من جهتها، أصدرت «إدارة الأغذية والأدوية الأميركية» في فبراير (شباط) قرارا يسمح للجيش باستخدام العملية في إنتاج بطاطا مهروسة على غرار المعدة بالمنزل، مع تمتعها بصلاحية لمدة ثلاث سنوات على الأقل. يذكر أن البطاطا تكون جاهزة لتناولها بمجرد فتح العبوة.

من ناحيته، قال ستيفين مودي، الذي يتولى قيادة جهود تطوير مسألة تحديد حصص الطعام المخصصة للأفراد المقاتلين داخل «مركز نيتيك للأبحاث التنموية والهندسية المرتبطة بالجنود» التابع للجيش الأميركي، ومقره ماساشوستس: «الآن، حصلنا على هذا النظام، ويمكننا البحث عن منتجات أخرى يمكن تحقيق الأمر ذاته معها». يذكر أن مودي غالبا ما يشارك في الخبرات مع «ناسا».

من بين التقنيات الأخرى الواعدة واحدة تجمع بين الإشعاع بالموجات القصيرة مع الحرارة الناشئة عن مياه، وذلك لتعقيم أغذية معلبة في غضون ما يتراوح بين خمس وثماني دقائق، بدلا من الفترة المعتادة المتراوحة بين 40 و60 دقيقة. في إطار هذه العملية يبقى مذاق الطعام طازجا، ويدوم لفترة أطول نتيجة تعرضه لحرارة مرتفعة لفترة أقل بكثير.

من جانبهم، استغل العلماء في «نيتيك» وجامعة ولاية واشنطن هذا الأسلوب في إنتاج نسخة أخرى من البطاطا المهروسة، تعكف «إدارة الأغذية والأدوية الأميركية» على دراستها. ويعمل العلماء حاليا على تطبيق الأسلوب ذاته مع المعكرونة والجبن والدجاج.

تتطلب هذه التقنيات مواد جديدة للتغليف لا تبلى حال تعرضها لضغوط شديدة. ولا تعد حقائب التغليف المصنوعة من رقاقات معدنية مناسبة بالنسبة لعمليات التعقيم باستخدام الموجات القصيرة، كما أنها ثقيلة الوزن وستترك خلفها رمادا حال حرقها على سطح المريخ. لكن بغض النظر عن الأسلوب الذي سيستقر عليه فريق العملاء، يبقى ضروريا أن يوفر حماية فاعلة للطعام من تسرب الماء والهواء إليه. من جانبه، يعكف توم أوزيوميك، العالم المتخصص في مجال التغليف في المجموعة المعاونة لبيرتشونوك، على اختبار نمط جديد من المواد المصنوعة من البولي إيثيلين مطلية بجسيمات دقيقة من أكسيد الألمنيوم جرى تطويرها لاستخدامها في الصناعات الدوائية. يذكر أن الطبقة المصنوعة من أكسيد الألمنيوم تحمل الكثير من الخصائص المفيدة كحاجز مثل الرقاقات المعدنية.

من ناحية أخرى، بمقدور العبوات البلاستيكية عالية التقنية حماية الأغذية لمدة تصل إلى 18 شهرا، وهو ما قد يكفي لرحلة إلى القمر، لكن ليس إلى المريخ. ولم يتضح بعد ما إذا كان رواد الفضاء سيستخدمون على المريخ مطبخا على غرار ما يوجد عادة بالمركبات الفضائية، حيث يجري إعداد الوجبات بإضافة مياه باردة أو أخرى ساخنة أو التسخين داخل فرن. من الممكن استخدام جهاز بسيط لإعداد الخبز أو جهاز آخر متعدد الأغراض يمكنه تحويل فول الصويا إلى زيت وتحويل القمح إلى عجينة وحبوب مما يجري تناوله في الإفطار، حسبما أوضحت بيرتشونوك.

فقط بعد الانتهاء من الوصول إلى التقنيات المناسبة بمجال الحفظ والتغليف، يمكن للعلماء الانتقال إلى مسألة إعادة تقييم الوصفات القديمة واستحداث أخرى. يشبه المعمل الخاص بهم الفصول المدرسية، فيما عدا أنه مجهز بمعدات خاصة مثل جهاز تحليل حجم الرطوبة في الفراغ، وجهاز مقياس ألوان، وجهاز تحليل للقوام، وغرفة اختبار ضخمة، وجهاز مقياس للزوجة. وتوقعت بيرتشونوك أن تبدأ عملية وضع الوصفة عام 2013. في تلك الأثناء، يعكف العلماء على تقييم إيجابيات وسلبيات لتكميل الوجبات المعلبة بفواكه وخضراوات طازجة. يذكر أن المرة الأولى التي أقدمت فيها «ناسا» على زراعة نباتات في الفضاء في الستينيات، وعمل فريق من «مركز كينيدي للفضاء» في فلوريدا على تطوير غرفة مقببة يمكن لرواد الفضاء استخدامها في زراعة الخس والطماطم والجزر والبصل الأخضر.

من جهته، قال راي ويلر، عالم النباتات المسؤول عن المشروع: «سيضيف هذا الأمر قيمة الحياة والتقبل إلى النظام الغذائي».

من جهتها، اعترفت بيرتشونوك بأن فريقها ربما يعجز عن تحقيق بعض أهدافه. لكن مع «ناسا» دائما ما توجد خطة بديلة.

على سبيل المثال، حال عدم وجود سبيل آخر للتغلب على الحاجة إلى العبوات الثقيلة المصنوعة من الرقاقات المعدنية، سيضغط الفريق على مخططي الرحلة للتأكيد على تعدد جوانب استخدام هذه العبوات كعبوات لحفظ عينات من تربة المريخ مثلا، أو الملابس المتسخة، حسبما قالت بيرتشونوك.

* خدمة «نيويورك تايمز»