«مزادات الخردة» في مصر.. التجارة شطارة

تحقق نحو 7 مليارات جنيه سنويا

TT

عالم غريب من الصعب اقتحام حصونه، وفك شفراته وأسراره، ومعرفة كيف يتحول المهمل «الخردة» الفارغ من القيمة والصلاحية إلى شكل من أشكال الحياة، ومصدر رزق سخي، وثروة قابلة دوما للاتساع والازدياد في يد نفر ممن يحتكرون هذه التجارة في مصر، ويعرفون مساربها ودهاليزها، وكيف يسيجونها بأسوار، وأبواب، لا يطأها غريب من دون إذن أو إشارة منهم.

سمات هذا العالم تتجلى بقوة في الطقوس والمراسم المصاحبة لـ«مزادات الخردة»، بداية من اللكنة والملابس والإيماءات والإشارات وأسلوب الحديث، بين الحضور، وكذلك التنوع الطبقي الذي ينعكس على شكل ومضمون المزاد، وتختلف وتيرته ما بين مزاد كبير، وآخر صغير. ثم فرحة الصيد والغنيمة وعلامات الرضا في وجوه الفائزين، وفي مقابل نظرات الغل والغضب الشديد لدى الفريق الآخر الخاسر. ولا مانع أن تتخلل أجواء المزاد بعض ألفاظ السباب أو صيحات التحذير والتهديدات، أو حتى المزاح والنكات التي تتبعها الضحكات المجلجلة.

تبدأ طقوس المزاد بمحاولات التجار لـ«التربيط»، واختراق المدار الرسمي للمزاد، وفيها يتم ترتيب الأوراق، أو خلطها بطرق سرية لإرساء المزاد على شخص معين أو جهة محددة. ثم «التخارج»، ويعني الخروج من المزايدة بالتراضي فيما يعرف في أوساط التجار باسم «التعريق»، وهو الحصول على مبلغ يتفق عليه، مقابل الخروج من المزايدة حتى ينالها شخص بأقل سعر، أو أحيانا المراوغة بـ«التعلية» في السعر، أو الاتفاق على سقف معين للشراء قبل إقامة المزاد، على غرار شراء فراء الدب قبل صيده.

تنفلت مزادات «الخردة» من قوانين العرض والطلب، بمعناها الاقتصادي المعروف، فهي لا تراهن على سلعة أو منتج معين، إذ على التاجر أن «يشيل الجمل بما حمل»، ما له نفع، وما ليس له في الوقت نفسه، لكنها على الرغم من ذلك تحقق هدفين مترادفين لمن يقيمونها، هما: التخلص من أشياء لا لزوم لها، والحصول على مكاسب من عوائد البيع.

وتشهد هذه المزادات نموا ملحوظا في مصر عاما بعد آخر. ويشير الخبراء إلى أن حجم المبيعات فيها وصل في العام الماضي إلى أكثر من 7 مليارات جنيه (نحو 1.25 مليار دولار).

وبحسب المستشار «إبراهيم عارف»، الخبير المثمن والمحكم الدولي، فإن مزادات الخردة تقام من قبل الشركات، أو الهيئات، أو المصانع، لبيع المستهلكات والرواكد التي تحوزها، وترغب في التخلص منها لتفريغ مخازنها من أشياء لم يعد لها استخدام، لكي تتمكن من وضع أصناف أخرى.

ويعرف «عارف» المستهلكات بأنها تشمل «قطع الغيار المستعملة الخاصة بالمعدات، والمعدات المستهلكة من آلات المصانع والسيارات.. إلخ. أما الرواكد فهي قطع الغيار أو المعدات الجديدة التي تمت الاستعاضة عنها بأخرى أحدث وأكثر تطورا».

وعن طريقة البيع يقول «عارف»: «تقوم الجهة البائعة بالاتصال بالخبير المثمن المتعاقد معها، الذي يقوم بدوره بمعاينة الأصناف المعروضة للبيع، ثم يقوم بتصنيفها في «لوطات» حسب ما يراه، وبعد ذلك يضع التقديرات المبدئية للأسعار، ثم يطبع كراسة الشروط للمزاد ويعلن عنها في الجرائد الرسمية».

ويوضح «عارف» أن الصعوبة التي تصاحب عملية المزادات تكمن في عدة نقاط، «أولاها: التصنيف، حيث يجب أن يكون كل (لوط) ـ قطعة ـ متجانسا من حيث النوعية، فمثلا المعادن تختلف عن اللدائن والزجاج، وكل صنف له مشتر. كما أن الـ(لوط) يجب أن يحتوي على الكثير من الأصناف المختلفة والمتجانسة في آن واحد، حتى لا يكون هناك صنف لا يباع. والنقطة الثانية تعتمد على التثمين في حد ذاته، الذي يجب أن يكون عادلا في حق البائع والمشتري معا. وأخيرا، حسن التعامل مع المتزايدين، الذين تتباين شخصياتهم ومشاربهم من كل شرائح المجتمع، فمنهم من يتحدث عدة لغات ويسافر للاستجمام بأوروبا، ومنهم الذي لا يعرف شيئا خارج أفق تجارته. وأساس مهنتي هو الخبرة، ولذلك أتت التسمية (خبيرا) مثمنا».

وتتركز مخازن تجار الخردة في القاهرة في شريط وهمي، مواز لشاطئ النيل شرقا، يمتد من وكالة البلح ويصل إلى حي شبرا الخيمة، مارا بالسبتية والساحل وروض الفرج، ولا نعلم يقينا سببا لهذه الخريطة سوى ما يذكره بعض المهتمين بتاريخ القاهرة القديمة، من أن هذا الطريق كان شريان التجارة المصري الرئيسي الذي يمر، في الاتجاهين، عبر القاهرة، ولذا أقيمت على امتداده الأسواق من غلال ومنسوجات وخلافه حتى احتلتها أسواق الخردة.

أما عن التصرف في هذه البضائع، فيقول طارق عبد الراضي (45 عاما)، أحد تجار الخردة: «تجارة الخردة كلها مكاسب، ولا شيء يتم الاستغناء عنه». فكل البضائع يتم تفكيكها بعد ذلك إلى مكوناتها الأولى، ثم تتم إعادة تدوير هذه المكونات في صناعة المعادن واللدائن والزجاج والخشب، كما تتم إعادة بيع قطع الغيار السليمة مرة أخرى إلى تجار التجزئة.

في مخزن عبد الراضي، تلمح أنماطا من العمال، يتراوحون بين الصبية، والشباب، والشيوخ، يعملون بجد في تفكيك بعض الآلات إلى مكونات أولية، ثم يجمعون كل فئة منها في أكوام خاصة، انتظارا لقدوم تجار التجزئة.

أما الحاج «عبد العظيم»، الذي تبدو ملامح هذا العالم على وجهه الستيني، فيقول «أنا من أقدم من عمل بالمهنة في المنطقة. وأعرف (أفك) أي ماكينة حتى آخر مسمار بها. ولولا حكم السن لرأيتني أفكك حتى المسامير ذاتها لقطع أصغر!!». يضيف عبد العظيم: «الخردة ممكن تخرج منها ذهب»، ويدلل على ذلك بأن المعدات الإلكترونية، بعد المعالجة في مصانع متخصصة، يُستخرج من بعض مكوناتها ذهب وفضة وبلاتين وخلافه من معادن ثمينة.

يلتقط خالد سكر ـ تاجر خردة شاب ـ مقولة عبد العظيم ضاحكا، مشيرا إلى أنها صحيحة حقا، ولكنها مخادعة، فالكميات المستخرجة من المعادن النفيسة ضئيلة، وتحتاج إلى أطنان من القطع لاستخراج غرامات من الجوهر الثمين.

يضيف سكر: «لو الحياة سهلة كده، كنا أصبحنا أغنى من بيل غيتس». فهامش الربح متوسط في هذه التجارة، بحسب رأيه، «كما أن بعض السلع التي نجبر على شرائها في (اللوط) نفسه في المزاد تكون ذات قيمة منخفضة للغاية»، ولكن «المكسب بيحتمل الخسارة».. والتجارة شطارة، حتى في الخردة كما يقولون.