مكتبة المركز الثقافي البريطاني بالقاهرة تطفئ شمعتها الأخيرة

بعد 75 عاما من إثراء الحياة الثقافية والأكاديمية

مبنى مكتبة المركز الثقافي البريطاني بالعجوزة («الشرق الأوسط»)
TT

استقبل الباحثون والأكاديميون ومحبو القراءة والمعرفة الجادة في مصر خبر الإعلان عن إغلاق مكتبة المركز الثقافي البريطاني بالقاهرة بالأسى والحيرة، فالمكتبة على مدار تاريخها الذي جاوز 75 عاما مثلت سندا قويا لحصولهم على مصادر المعرفة والمراجع المهمة في شتى دروب العلم والفلسفة والفن والأدب وأوجه الثقافة بشكل عام. واعتبر الكثير منهم الحدث بمثابة «صدمة ثقافية»، ووصفه البعض بـ«الخسارة الفادحة»، بخاصة في وقت طغت فيه ثقافة «الميديا» والإنترنت و«هي ثقافة على الرغم من أهميتها فإنها ـ على حد قول الباحث الأكاديمي جمال إبراهيم ـ ثقافة عابرة، لا يمكن الاعتماد عليها في عملية التأسيس العلمي والفكري، لأي باحث ينشد المعرفة من مظانها الحقة والأصيلة». ملامح هذه الأسى بدت جلية على مبنى المركز القابع بحي العجوزة على نيل القاهرة، فثمة غلالة من الحزن ترتسم على وجوه الطلبة والمسؤولين، وبدا مبنى المكتبة الأنيق وكأنه سرادق عزاء يستقبل المعزين بدمعة حائرة على زمن مضى، من الحلم والحب والمعرفة. ففي تمام السابعة من مساء الأربعاء الماضي الموافق العشرين من أغسطس (آب) الجاري، أطفأت «كاثي كوستين» ـ آخر الأمناء ـ شمعة المكتبة الأخيرة، بعد أن ظلت للحظات تتأمل الظلمة والوحشة، وربما تحسست «كاثي» ـ تحت وطأة المشهد ـ أرفف الكتب وموائد القراء، وبينما تغالب دموعها، قالت «fare well sweetheart» (وداعا يا حبة القلب)، قبل أن تغلق لآخر مرة الباب.

كان خبر إغلاق مكتبة المجلس الثقافي البريطاني بالقاهرة صادما بكل المقاييس، لكل من له اهتمامات ثقافية في أرجاء مصر. جاء الخبر المحزن على لسان السيد «بول سميث»، مدير المجلس، في مؤتمر صحافي عقده يوم «الثلاثاء» الماضي. الحزن خيم على كل الحاضرين، بلا استثناء، على الرغم من محاولة الرجل فرض جو من التفاؤل، من خلال وعوده بتدبير وسائل أفضل لخدمة الشعب المصري، وكذلك توجيه جهود المركز نحو أهداف خدمية أخرى، منها مشاريع التبادل العلمي، والكتابة المسرحية الحديثة، والفصول الدراسية المتصلة، والمشروع العلمي العالمي «ميراث داروين». لكن حديث «سميث» ونبرة التفاؤل لم يفلحا في تفتيت سحابات الحزن من على وجوه الحاضرين.

الأسباب المعلنة للإغلاق كانت قلة العضويات بالمكتبة، حيث تضاءلت على مدى السنوات لتصل إلى أقل من ألفي عضو في العام الأخير. ويؤكد «سميث»، قبل أن يبادره أحد بالسؤال، أن الهدف الربحي من اشتراكات الأعضاء غير وارد بالمرة، «لا توجد مكتبة في العالم (ليس فقط مكتبات المجلس البريطاني) تقوم بتغطية تكاليفها، بغض النظر عن الأرباح» كما يقول، بل الأكثر مدعاة للحزن أن معظم المشتركين، القلائل، لا تتعدى اهتماماتهم استخدام الإنترنت وتطبيقاته داخل المكتبة، مما يعكس تغيرا عاما بالمناخ الثقافي في أوساط فئة الشباب المصري.

وفي تحليله للأمر، يقول «سميث» إن صعوبات الحياة اليومية، من طول ساعات العمل والازدحام، إلى جانب انتشار الكثير من المكتبات العامة، كمكتبة مبارك، ومكتبة القاهرة، بأنحاء شتى في القاهرة والإسكندرية، والمكتبات الخاصة مثل الديوان ودار الشروق، ومصادر الاستمتاع الأخرى مثل وسائل البث الفضائي، والمراكز الثقافية الأخرى مثل ساقية الصاوي، وضعت خيارات أخرى أمام المثقف المصري، وجعلت المكتبة البريطانية تنزلق إلى مؤخرة القائمة.

«طاقاتنا تهدر فيما لا طائل منه، فدراستنا تؤكد أننا نخدم 2000 شخص من مجتمع تعدى حاجز الـ70 مليون، اختلفت اهتمامات الناس ويجب أن نبحث عن طرق أفضل لخدمة رسالتنا» هكذا يلخص «بول» الأمر، مشيرا إلى أن المكتبة لن تغلق بالمعنى الحرفي للكلمة، بل ستعاد هيكلتها لتحقيق أقصى فائدة مرجوة، عن طريق تبرعها بالكتب، التي يصل عدد عناوينها إلى خمسة آلاف، معظمها عن الأدب الإنجليزي، إلى مكتبات الأقاليم المختلفة، خارج نطاق القاهرة والإسكندرية، وذلك لتكوين نويات لمكتبات تحمل الرسالة نفسها، ولكن إلى عدد أكبر من البشر، وفئة كانت تحتاج إلى سفر طويل لكي تحصل على مثل تلك القراءات.

الاعتراض الصامت، والمتحدث أحيانا، يطل من العيون جليا. يقول طلبة مجتمعون باستراحة المجلس، في انتظار محاضرة أو في استراحة فاصلة: «نحن لا نتفق مع القرار، أعيدوا لنا المكتبة، امنعوا استخدام الإنترنت بداخلها، ولسوف نقرأ كتبا كل يوم». بعض الناشطين الرافضين نظموا مجموعات على مواقع مثل الـ«فيس بوك» تناهض القرار، وتحت شعرات «أوقفوا الإغلاق». كما اقترح البعض تنظيم وقفات احتجاجية سلمية، ترفع لافتات الاحتجاج أمام بوابات كل من المجلس الثقافي في العجوزة ومصر الجديدة والإسكندرية، والسفارة البريطانية بـ«غاردن سيتي»، ولكن لديهم مخاوف من «تسييس» الأمور، أو اندساس آخرين وسطهم، مما قد يؤدي إلى تدخلات أمنية.

شكلت المكتبة على مدار تاريخها استراحة جميلة لقطاع كبير من الباحثين والكتاب والمبدعين والفنانين والمترجمين من مصر ومختلف الدول العربية والأجنبية، وكانت بمثابة ملتقى ثقافي، يتجدد إيقاعه يوميا بالجديد في شتى دروب المعرفة والعلم، ومن أبرز روادها على سبيل المثال لا الحصر، الروائي صنع الله إبراهيم، والشاعر حسن طلب، والروائي إدوار الخراط، والمترجمان خليل كلفت وطلعت الشايب. كما كانت المكتبة، قبل زمن الحداثة الإلكترونية، المكان المفضل للسفراء والقناصل البريطانيين، يجلسون في رحابها كل صباح للتشاور وقراءة أهم الصحف والمجلات البريطانية وغيرها، كـ«التايمز» و«النيوزويك» و«الغارديان» قبل ذهابهم إلى أعمالهم.