فن المونولوج.. ضحكة مهددة بالانقراض

دشنه إسماعيل ياسين وشكوكو وشهد نجومية لبلبة والحداد

TT

ألقى مهرجان الموسيقى العربية الذي عقد أخيرا بالإسكندرية الضوء مرة أخرى على فن المونولوج، وذلك من خلال تكريمه الفنان الكبير «محمود شكوكو» إحدى علامات المونولوج في عالمنا العربي. هذا الفن يقف على عتبة الانقراض، بعد أن تناقص مريدوه وفنانوه، وغرق بعضهم في التقليد، وانساق البعض الآخر للعمل كمقدمي برامج، وهجروا هذا اللون الفني الذي كان يحظى في الماضي بشعبية ضخمة سواء في السينما، أو على خشبة المسرح.

شذرات مما يجري في واقع هذا الفن وشخصية المونولوجست نلمسها في فيلم «الفرح»، في شخصية «صلاح وردة» التي أداها الفنان صلاح عبد الله، حيث لم يعد المونولوجست يطلبه أحد، ولا حتى في الأفراح، بعد أن كان هو دائما الوجبة الدائمة على موائدها.

عرف فن المنولوج نجوما كبارا، بدأوا حياتهم بأدائه، ومنهم «يوسف وهبي» و«نجيب الريحاني» و«حسن فايق»، ولا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ لديها بمونولوج سجله «حسن فايق» في منتصف الثلاثينات في مكافحة الكوكايين الذي انتشر في مصر أثناء تلك الفترة، ويقول في مطلعه «شم الكوكايين خلاني مسكين»!! كان الطريق للسينما يبدأ من المونولوج، وأشهر مونولوجست فتحت له السينما أبوابها هو «إسماعيل ياسين»، ولم تتوقف السينما عن الاستعانة بنجوم المونولوج مثل «محمود شكوكو»، «أحمد الحداد»، «أحمد غانم»، «سيد الملاح»، «ثريا حلمي»، «لبلبة»، «حمادة سلطان»، وصولا إلى «فيصل خورشيد» و«عادل الفار» و«محمود عزب». ولكن تضاءل تواجد نجوم المونولوج سينمائيا، وكادوا يختفون تماما من على الشاشة في السنوات العشرين الأخيرة، لولا أن السينمائيين راهنوا على أنهم ربما يملكون ضحكة أو حتى شبه ضحكة يمكن أن تجذب الجمهور لسينما هذه الأيام التي يقطع فيها الجمهور التذكرة ويبدأ في رصد عدد الضحكات. ويبدو أن هذا هو الرهان الأخير لنجوم المونولوج!! لم يكن الرهان على «إسماعيل ياسين» باعتباره بطلا مطلقا في السينما يبدو متوقعا في البداية، بل إن رفيق مشوار «إسماعيل ياسين» المونولوجست «محمود شكوكو» كان الرهان عليه أكبر، والطموحات التي ارتبطت به أكثر، والدليل على ذلك أن كل اللقاءات السينمائية الأولى التي جمعت بين «محمود شكوكو» و«إسماعيل ياسين» جاء فيها اسم «شكوكو» أسبق من «إسماعيل» على الرغم من أن الترتيب الأبجدي لصالح «إسماعيل» بالطبع، إلا أن «إسماعيل ياسين» لم يكن لديه أي مانع من أن يسبقه «شكوكو».

كانت حياة «إسماعيل ياسين» الفنية أشبه بدائرة نقطة البدء فيها هي نقطة الانتهاء.. المونولوجست الذي يلقي نكاته في الملاهي المتواضعة كان البداية الحقيقة له، وينتهي به المطاف قبل رحيله 1972 بعام بالذهاب إلى شارع الهرم لإلقاء النكات والتقاط رزقه!! لم يكتشف «إسماعيل ياسين» أنه مونولوجست، لكن الناس هي التي اكتشفته وعرفته قبل أن يعرف هو نفسه. «أيها الراقدون تحت التراب» أغنية «عبد الوهاب» القديمة كانت هي أول شرارة بينه وبين الناس، حيث ضحكوا عليه عندما بدأ يغني لعبد الوهاب في أحد الأفراح التي أقيمت فوق سطح عمارة بحي شعبي تلك الأغنية الحزينة. الغريب أن «إسماعيل ياسين» لم ينس أمنيته بأن يصبح مطربا عاطفيا، حيث إنه في أحد أفلامه أمسك بالميكروفون وغنى أغنية حزينة أخرى وهي «في يوم من الأيام»، وكان «عبد الحليم حافظ» هو ضيف شرف الفيلم، وكان الجمهور يضحك و«عبد الحليم» يضحك و«إسماعيل ياسين» يبكي من حرقة كلمات الأغنية وهو يقول «قسوة حبايبي مغلباني.. اوعى يا قلبي تحب تاني.. في يوم من الأيام». نشاهد الآن في رمضان مسلسل «إسماعيل ياسين» الذي كتبه «أحمد الإبياري» ويخرجه «محمد عبد العزيز» ويؤدي دوره «أشرف عبد الباقي» لنرى من المؤكد تفاصيل أخرى عن هذا الفنان العبقري!! لا أعتقد أن هناك فنانا ما عرض له 19 فيلما روائيا في عام واحد إلا «إسماعيل ياسين». كان ذلك عام 49 بعد أن شعر السينمائيون بأن «إسماعيل ياسين» هو تميمة النجاح في الأفلام، ولهذا كان صديقا لكل الأبطال في الأفلام التي شارك فيها مثل «فريد الأطرش» و«محمد فوزي» و«عبد العزيز محمود» و«محمد الكحلاوي»، ولم يقتصر الأمر على المطربين فقط، لكن كل النجوم كان يقف وراءهم «سُمعة»، مثل «كمال الشناوي»، «أنور وجدي»، «محسن سرحان». أداء المونولوج لم يكن هو طريقه للسينما، ولا أداء النكات كان مفتاح السينما، لكنه «إسماعيل ياسين» الممثل الكوميديان الذي من الممكن أن يؤدي أغنيات خفيفة مثل «إحنا التلاتة سكر نباتة» بمفرده أو مع مجموعة.

وينتقل «إسماعيل» من أداء دور الصديق أو السكرتير أو الخادم الذي منتهى أمله أن يحل مشكلة البطل ويحب صديقة أو سكرتيرة أو خادمة البطلة، وتغني له شادية «عاجباني وحاشته.. وحاشته عاجباني».. ينتقل إلى مرحلة البطل الذي تحبه وتغرم به البطلة، «وهو ولا هو هنا» وغنت له فايزة أحمد «يا حلاوتك يا جمالك خليت للحلوين إيه»!! ويحتفظ أيضا برقم النجم الأول والمطلوب في أكبر عدد من الأفلام.. ولهذا في عام 54 يلعب بطولة 18 فيلما، وهو رقم لا أعتقد أن أيا من النجوم اقترب منه.

يكسب «إسماعيل ياسين» الآلاف لأن نجوم تلك السنوات لم يعرفوا الملايين، ويرحل وهو مدين للضرائب ويقف في شارع الهرم يلقي النكات ويقول له الجمهور قديمة، لكن أفلامه القديمة لا تزال حتى الآن تضحك كل الأجيال الجديدة.

لكن لماذا اختار السينمائيون في البداية «محمود شكوكو» كبطل قادم للسينما بينما اختار الجمهور «إسماعيل ياسين»؟

إنه الفارق بين مواجهة الجمهور مباشرة على خشبة المسرح ومواجهته عبر الكاميرا.. «شكوكو» لم يعرف هذا الفارق رغم أنهم صنعوا له تمثالا يباع بزجاجة «كازوزة» فارغة في الأربعينات، ولهذا كانوا يرددون هذا النداء الشهير «شكوكو بإزازة».. لقد تردد أن هناك هدفا عسكريا وراء ذلك، حيث إن هذه الزجاجات كانت تعبأ بمواد متفجرة يلقيها رجال المقاومة على جنود الاحتلال البريطاني في مصر في تلك السنوات!! هذه الجماهيرية الطاغية على المسرح والأراجوز الذي اشتهر بأدائه «شكوكو» كان ينبغي عندما ينتقل به إلى السينما أن يصبح أكثر نعومة في تعامله مع الكاميرا. المسرح يسمح بهامش من خشونة الأداء والمبالغة أيضا التي لا تبدو مبالغة على المسرح، ولكنها تتوافق مع جمهور يتابع نجمه وبينه وبين هذا النجم مسافة. أما في السينما فإن الكاميرا لا تسمح بذلك لأنها تختصر المسافات، ولهذا أي مبالغة تتحول إلى خشونة وغلظة في الأداء. استوعب «إسماعيل ياسين» الدرس بفطرته، بينما لم يستطع «شكوكو» أن يعرف السبب لأن «إسماعيل ياسين» رفيق مشواره أكثر نجاحا منه أمام الكاميرا، لعله كان يقول «حظوظ»، ولهذا فإن «شكوكو» الذي قدم مع «إسماعيل» الكثير من الأفلام عندما كانا في بداية المشوار في مطلع الأربعينات لم يرض أن يقف بطلا مساعدا بعد ذلك أمام «إسماعيل ياسين» الذي أصبح بطلا مطلقا ونجما كوميديا استثنائيا منذ مطلع الخمسينات. بينما «محمود شكوكو» اكتفى بأنه الفنان العربي الوحيد الذي صنعوا له تمثالا حتى ولو كان «بإزازة»! «فتح يا ابني فتح شوف مين بيكلمك».. مونولوج شهير لثريا حلمي فتح لها الأبواب إلى السينما، بل إن «حسن الإمام» أسند لها البطولة أمام «فاتن حمامة» في فيلم «اليتيمتان»، وكان من المنتظر أن تتخاطف السينما «ثريا حلمي» التي أسند لها مخرج الروائع بطولة فيلمه الروائي الثالث، ولكن بعد البطولة عادت «ثريا» للأدوار الثانية، ثم في آخر 25 عاما من حياتها لم تعرف الطريق إلى استوديوهات السينما، ولم يعرف السينمائيون طريق بيتها!! في آخر أفلام رأفت الميهي «عشان ربنا يحبك» الذي عرض قبل 8 سنوات، استمع الجمهور إلى صوت «عمر الجيزاوي» وهو يغني «معانا الجاوي والبخور».. الفيلم بالطبع لم يحقق إيرادات تذكر، ولا أعتقد أن جمهور الشباب القليل الذي دخل الفيلم تعرف على صوت المونولوجست «عمر الجيزاوي»، ولا على هذا المونولوج، لأن المونولوج الوحيد الذي تحتفظ به الإذاعة المصرية وتقدمه أحيانا بعض القنوات الفضائية أبيض وأسود لعمر الجيزاوي هو «اتفضل شاي» وهو يرتدي زيا شعبيا لبائع العرقسوس، والذي يقدم فيه «الجيزاوي» أكواب العرقسوس على خشبة المسرح.. أكثر من ذلك لا أحد يتذكر شيئا لهذا المونولوجست، وبالطبع فإن السينما تعاملت بحذر مع «عمر الجيزاوي» الذي كان من نفس جيل «إسماعيل ياسين» و«محمود شكوكو».. ورغم ذلك فقد ظلمت الإذاعة «الجيزاوي» كثيرا وهو حي، لأنها كانت لا تقدم له إلا على فترات متباعدة مونولوج «اتفضل شاي»، كما تغاضت عن حكم قضائي يقضي بأحقيته في ذكر اسمه كملحن مشارك في تلحين أغنية «مصر اليوم في عيد»، ولكن لم يستمع «الجيزاوي» إلى اسمه في الإذاعة على هذا اللحن، ورحل قبل أن يقدم «شريف عرفة» فيلمه «سمع هس» الذي استوحى في أحداثه سرقة لحن شعبي ووضع كلمات وطنية على أنغامه، وهي واقعة عاش تفاصيلها «الجيزاوي» لكن أغلب الناس لا يعرفون عنه إلا «اتفضل شاي.. أنا متشكر».

عندما كان المونولوجست «سيد الملاح» يقلد «محمد عبد المطلب» كان يضع في الجاكتة بوكيه ورد، ويبالغ في أداء أغنياته ومواويله، وكان «عبد المطلب» يلجأ للقضاء ويقيم دعاوى سب وقذف ضد «سيد الملاح». وعندما كانت «لبلبة» تكتفي بوردة وبقليل من المبالغة لعبد المطلب كان يحرص على الإشادة بها في كل مكان وعلى صفحات الجرائد. «الملاح» كان صاخبا، بينما «لبلبة» كانت مبالغتها هادئة ولا تجرح أحدا، ولهذا كانت تضحكنا على «طلب» بمقدار لا يؤثر على «طلب» أو يحيله إلى موضة قديمة في عالم الغناء تستحق الضحك!! مداعبات «لبلبة» تقبلها «عبد المطلب»، لكن «سيد الملاح» كان أشد سخرية، وهذا هو الفارق بينهما أيضا في السينما، لأن «سيد الملاح» عندما انتقل للسينما أحضر معه «بوكيه» الورد ولم يكتف بوردة واحدة في عروة الجاكتة، وظل مبالغا وبلا رحمة.

الفن عند «لبلبة» مرتبط بعمرها الزمني، فهي الطفلة الصغيرة في أفلام مثل «حبيبتي سوسو» و«أربع بنات وضابط»، ثم هي المقلدة لكبار نجوم الغناء «فايزة أحمد»، «نجاة»، «وردة»، «فريد الأطرش»، «عبد الحليم».. بينما كانت الوحيدة التي لم تقلدها على المسرح هي «أم كلثوم»، وإن كانت فعلت ذلك في حفل خاص وبناء على إلحاح من «أم كلثوم» التي طلبت ذلك منها أكثر من مرة، لكنها لم تسمح لها بالطبع بأن تقلدها في حفل عام.

كانت السينما امتدادا للأغاني الخفيفة التي قدمتها «لبلبة» على المسرح، ولهذا كانت تؤدي هذه الأدوار نفسها في السينما، وشاركت «عادل إمام» عددا من الأفلام الشهيرة، وجاءت المرحلة الثانية لها عندما منحها المخرج الراحل «عاطف الطيب» دور عمرها في فيلم «ليلة ساخنة» وحصلت على 7 جوائز أحسن ممثلة في الكثير من المهرجانات المحلية والعالمية.

«أحمد الحداد» أسبق زمنيا من «سيد الملاح» ببضع سنوات، فهو ينتمي إلى الجيل التالي مباشرة لإسماعيل ياسين وشكوكو، وكان مونولوجست وصاحب نكتة من الطراز الأول.. و«سيد الملاح» «أحمد الحداد» يعدان من جيل الوسط في المونولوج.. وارتبط «الحداد» مع الناس بشخصية «الرغاية» التي قدمها في الإذاعة واستعانت بها السينما أيضا، ثم كانت تقدم له أدوارا صغيرة وأشهرها عند الناس «شارع الحب»، حيث كان هو أحد أفراد فرقة «حسب الله» في شارع محمد علي!! كان «أحمد الحداد» هو ملك النكتة حيث التكثيف الشديد واللماحية خفيفة الظل، وعندما انتقل للسينما ظلت أدواره بها تلك اللماحية، وقبل أن يرحل في منتصف التسعينات كنت ألتقي به في كافيتريا «جروبي» بوسط مدينة القاهرة، وكان غائبا عن السينما التي لم تواصل الود بينها وبينه، وكنت أشاركه أيضا في هذا العتاب.. فلقد عاش «الرغاية» أكثر من 15 عاما في حالة صمت سينمائي!! على الرغم من أن «أحمد الحداد» ظل ينفي طوال حياته أن «عبد الناصر» قد غضب منه بسب نكتة الموظف، وأنه لا صحة لصدور قرار بمنع مونولوجاته في الإذاعة بعد أن أطلق هذه النكتة، إلا أن المقربين يؤكدون أن النكتة أغضبت بالفعل «عبد الناصر» وأضحكت الجمهور، وذلك عندما قالها «أحمد الحداد» أثناء الاحتفال بعيد ثورة 23 يوليو في حضور «عبد الناصر»!! النكتة تقول إن لصا صعد إلى أوتوبيس وأمسك بمطواة وطلب من كل راكب أن يذكر وظيفته ويلقي بالمحفظة على الأرض، وأخذ اللص يجمع المحافظ من الجزار والتاجر والطبيب والمدرس والمهندس، حتى جاء دور «الموظف» فقال له خذ أنت محفظة من الأرض!! ولا يزال الناس يتذكرونه بأنه صاحب النكتة التي أغضبت «عبد الناصر» وأضحكت الجمهور!! في نهاية الرحلة مع نجوم المونولوج تمت الاستعانة بعادل الفار في عدد من الأفلام، والمطلوب هو أن يعثر على نكتة، وهكذا شارك في أدوار قصيرة في عدد من الأفلام مثل «عمر 2000» و«الأجندة الحمراء»، لكن لم يمتد به العمر سينمائيا لأنه كان ينظر إليه كنمرة في الفيلم.. أما «محمود عزب» فلقد منحه «شريف عرفة» دورا قصيرا في فيلم «ابن عز» لكنه لم يكمل الطريق. «فيصل خورشيد» شارك في عدد من الأفلام بأدوار صغيرة لم تنجح، وكل من «عزب» و«فيصل» تحول أخيرا إلى مقدم برامج تلفزيونية.. كان «عزب شو» هو أول مونولوجست يسخر من زميل له، حيث دأب على تقديم فقرة عن «حمادة سلطان» الذي كان يطلق على نفسه لقب صاروخ النكتة، وأحاله «عزب» إلى أثقل ظل مونولوجست يقدم نكتة!! وهكذا.. في دنيا المونولوج لا أعتقد أن هناك من سيحقق نجاحا أكبر من الأوائل «إسماعيل ياسين» و«شكوكو».. أما في دنيا الكوميديا فإن «إسماعيل ياسين» سيظل حالة استثنائية، تبحث عن منافس.