العراقيون ينسون الحرب لمدة يوم على بحيرة الحبانية

مع شاطئ ينقسم إلى قسمين أحدهما مخصص للعائلات والآخر للرجال والشباب

إذا ما اقترب أحد الشباب من القسم الخاص بالعائلات يتدخل رجال الشرطة لطرده بعيدا («نيويورك تايمز»)
TT

على بعد بضع ساعات خارج بغداد، في قلب الصحراء العراقية الغربية مترامية الأطراف يقابلك مشهد قد تظنه محض خيال، حيث يمتد على شاطئ رملي طويل آلاف الأفراد يمارسون السباحة ويرقصون بأقدام حافية تحت أشعة الشمس الحارة غير آبهين بها. عبر مكبر الصوت، يعلو صوت مقدم الأغاني المسجلة ـ السيد «دي. جيه.»، كما يطلق على نفسه ـ معلنا بدء أغنية سورية راقصة. وصاح بالعربية: «نود سماع صرخة كل من هم من بغداد!». وحينئذ، علت أصوات التهليل من الجمهور الملتف حوله. وأضاف مسؤول تقديم الأغاني: «أبناء الأدهمية ومدينة الصدر، أروني ما لديكم!»، في إشارة إلى اثنين من أحياء العاصمة ـ ينتمي جميع أبناء الحي الأول تقريبا إلى السنة، بينما يغلب الشيعة على الآخر بصورة تكاد تكون كاملة.

وعليه، بدأ الجمهور في الرقص بحركات مفعمة بالطاقة، وتشارك السنة والشيعة في لحظة سعادة نادرة لم يعكر صفوها شيء. ومع أن المشهد يبدو مثيرا للذهول، فإنه يبقى حقيقيا، ذلك أنه للمرة الأولى منذ اشتعال الهجمات الطائفية عام 2006، يتمتع العراق بموسم استجمام على الشواطئ.

يذكر أن الماء في بحيرة الحبانية في محافظة الأنبار عكرة بسبب الطمي. واليوم، تسببت عاصفة رملية في حجب الشمس. بوجه عام، يفتقر غالبية العراقيين لأجهزة تبريد للهواء في منازلهم وإمدادات كهرباء يمكن الاعتماد عليها. علاوة على ذلك، قتل مئات العراقيين هذا الشهر جراء أعمال العنف التي لا تزال تضرب البلاد.

ومن جانبهم، يؤكد راغبو الاستجمام على شاطئ بحيرة الحبانية أن كل هذه العوامل تزيد من أهمية قضاء يوم على الشاطئ.

في هذا الصدد، قالت آية الشماري، 22 عاما، طالبة جامعية، والتي رغم ارتدائها قميصا وسروال جينز محتشمين، اجتذبت أنظار عشرات الرجال من رواد الشاطئ: «جئت هنا بهدف الفرار ـ من قنابل بغداد، وأصوات المولدات. نحن هنا لنمضي وقتا طيبا. ليس هناك اختلاف بين الشيعي والسني. كلنا عراقيون». قاد أغلب رواد الشاطئ سياراتهم إلى داخل الرمال وتركوها بجانب الشاطئ مباشرة. ونظرا للأوضاع الأمنية بالعراق، جرى تفتيش السيارات بحرص تحسبا لوجود متفجرات، وكذلك الرواد خشية أن يكون من بينهم انتحاري يرتدي حزاما ناسفا. إلا أنه خلال هذا اليوم تحديدا من أغسطس (آب)، لم يكن هناك أكثر ضررا من درجة الحرارة التي وصلت إلى 115 درجة والأطعمة ذات السعرات الحرارية المرتفعة، وتنوعت بين اللحم البقري والكباب والبيرياني. واختلس بعض الرجال الشباب رشفات من الجعة الباردة.

ومن جهته، قال ملازم أول، أوراس سعد، الذي يعمل بالجيش العراقي ويتولى مسؤولية أمن نقطة التفتيش الخاصة بالبحيرة، إنه لم تقع أعمال عنف على شاطئ البحيرة منذ إعادة فتحها أمام الجمهور هذا الصيف. لكن المنطقة لم يسدْها الهدوء طيلة الوقت، ذلك أن بحيرة الحبانية تقع في قلب منطقة تركز العرب السنة من العراقيين، وحتى عام ونصف العام مضيا، شكلت المنطقة معقل لتنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين»، وهي جماعة متمردة نشطت على نحو خاص في شن هجمات وحشية ضد الشيعة بمختلف أرجاء البلاد. إلا أن هذا التاريخ المضطرب يبدو بعيدا للغاية في هذه اللحظة تحديدا. خرجت امرأة ترتدي قميصا أسود وبنطالا من الجينز الأزرق من الماء للتو. ومع أن ملابسها الثقيلة قد لا تكون ملائمة للسباحة، خرجت من البحيرة يحمل وجهها أمارات السعادة. مثلما الحال مع غالبية النساء هنا، تكشف هذه السيدة عن جزء ضئيل للغاية من جسدها لا يتجاوز قدميها العاريتين. وقد نزلت بعض النسوة إلى الماء متشحات بأغطية للرأس وعباءات. أما معظم الشباب الرجال فسبحوا مرتدين سراويل فضفاضة دون قمصان تغطي أعلى الجسد.

من ناحيتها، علقت السيدة التي خرجت من الماء بقميص أسود وبنطال جينز، وتدعى مها عبد الوهاب، 23 عاما، بقولها: «أرغب في ارتداء قدر أقل من الملابس، لكن ذلك يثير غضب أشقائي بشدة».

بوجه عام، ينقسم الشاطئ إلى قسمين، أحدهما مخصص للعائلات والآخر إلى الرجال الشباب.

وتجلس غالبية الشابات في الجزء المخصص للعائلات، عادة تحت مراقبة شقيق أكبر. وبين كل لحظة وأخرى، تتحول نظرات الكثير من الشباب ممن قدموا إلى البحيرة بمفردهم باتجاه الجزء المخصص للعائلات.

وإذا ما اقترب أحد الشباب بدرجة كبيرة من القسم الخاص بالعائلات وأخفق في إثبات أنه ينتمي إلى هذا القسم من الشاطئ، يتدخل رجال الشرطة لطرده بعيدا.

ورغم كل ذلك، تدور الفكرة الرئيسية لارتياد هذا الشاطئ، مثلما الحال مع غالبية الشواطئ الأخرى، حول مجموعة من الفتية والفتيات يحاولون قضاء بعض الوقت معا. وبالفعل، يتمكن الشباب الجسور من التوصل إلى سبل لتحقيق ذلك. مع تحول الهواء إلى اللون الأصفر بسبب عاصفة رملية بالجوار، نجح شاب طويل القامة جالس في قسم الشباب من لفت أنظار امرأة شابة تجلس بقسم العائلات.

وعلت أصوات مقدم الأغاني معلنا عن أغنية «العقربة» للمطرب العراقي حسام الرسام. بعد قرابة نصف الساعة على المغازلة عن بعد، تفتق ذهن الشاب، ليث علي، عن خطة للاقتراب، حيث طلب من رجل كان يجلس بشاحنة قصاصة ورق وكتب عليها شيئا ما، ثم سار ببطء على طول الشاطئ، متظاهرا بأنه غير واع لاقترابه من القسم الخاص بالعائلات. وعمد إلى إبقاء رأسه منخفضا لتجنب لفت انتباه مجموعة من رجال الشرطة المتفرقين بالمكان.

وسار باتجاه الشابة التي كانت تدير وجهها في الاتجاه الآخر. ثم أسقط الورقة، كما لو كان الأمر عارضا دون قصد، ورحل بعيدا. لبضع دقائق، لم يحدث شيء. بعد ذلك، وقفت الشابة وتحركت نحو الماء، ثم توقفت والتقطت ورقة من وسط الرمال. فتحت الشابة الورقة وقرأتها وابتسمت. من بعيد، كان الشاب يراقب المشهد. وعلق بصوت خفيض: «أخبرتها أنها جميلة وأعطيتها نمرة هاتفي».

* خدمة «نيويورك تايمز»