أحمد سلطاني يحول بروات أقلام الرصاص إلى أعمال فنية يدوية

أنجز أول عمل قبل أربعين عاما وكان للفنان دريد لحام وهو يحمل سلة زهور

من أعمال سلطاني المنفذة فقط ببروات قلم الرصاص («الشرق الأوسط»)
TT

قد لا يخطر على بال أحدنا عندما كنا تلاميذ في المدارس أن مخلفات أقلام الرصاص من البروات الخشبية يمكن أن تتحول لعمل فني جميل. ولكن أحمد راتب سلطاني المعلم الدمشقي (75عاما) بحسه الفني ومنذ أربعين عاما وعندما كان يشاهد تلامذة في الصف يبرون الأقلام ويضعون البروات الخشبية في سلة المهملات، اكتشف ميزة جمالية لهذه النفايات، فقرر ومنذ ذلك التاريخ أن يحولها إلى أعمال فنية. وبصبر وأناة وطول بال لا حدود له استطاع سلطاني أن ينجز أول لوحة فنية من البروات بألوان متعددة للخشب الحامل لقلم الرصاص، وكانت المفاجأة أن اللوحة خرجت أشبه ما تكون بلوحة فسيفساء، وكان موضوعها «فنان من بلدي»، حيث خصصها للممثل السوري المعروف دريد لحام بشخصيته المعروفة (غوار الطوشة) وشارك بها في أول معرض دولي للزهور تحتضنه دمشق نهاية ستينات القرن الماضي. ووجدت لوحته استحسانا من الناس والمتابعين للفنون والتشكيل، حيث اعتبر الكثير منهم أن سلطاني ابتكر عملا إبداعيا جديدا يعتمد على العمل اليدوي، والبعض اعتبره تشكيلا زخرفيا انطباعيا جميلا، ومنهم من أشركه فيما بعد في معارض المهن اليدوية الدمشقية التقليدية ضمن معارض دمشق الدولية السنوية.

ومع زخم الإعجاب في البدايات قرر سلطاني الاستمرار في جمع نفايات أقلام الرصاص من البروات الخشبية وإنجاز أعمال جديدة منها على الرغم من صعوبة التعامل مع مواد مثل هذه النفايات، فأنجز العشرات وأقام الكثير من المعارض لهذه الأعمال، ولكن وكما يقول سلطاني لـ«الشرق الأوسط»: «قررت في السنوات الأخيرة التوقف عن إنجاز أعمال جديدة منها، والسبب أنها متعبة، فعلى الرغم من عبارات الإعجاب التي سمعها من الكثيرين ويحتفظ بها في دفاتره التي كانت ترافق معارضه، فإن أحدا لم يقدم الدعم المادي له خاصة أنه حاليا معلم متقاعد يعيش على راتبه التقاعدي فقط، فقرر التحول في السنتين الأخيرتين إلى هواية أخرى كانت ترافقه باستمرار وهي تصليح الساعات خاصة القديمة منها. وهذه تحتاج أيضا لبال طويل، وهي صفة تميز الفنان سلطاني بشكل كبير، وتساعده كثيرا على إنجاز أعماله من بروات الخشب سابقا وحاليا في صيانة الساعات القديمة التي يعمل بها بمنزله في حي يتوسط العاصمة دمشق وتدر عليه بعض المال.

وحول أعماله التي أنجزها من بروات أقلام الرصاص وكان لها دور مهم في إبداعات سلطاني «اعتبرت هذه البروات (الفراشات) كلمات للغة جديدة من الممكن استخدامها في التشكيل الفني خاصة أنها مجانية وموجودة في كل بيت ولدى كل إنسان وطفل في البيت والمدرسة، حيث يمكن منها تنضيد كلمات وعمل لوحة فنية، مثل الكلمات التي نصوغ منها الشعر والموال والأغنية، فجمعت هذه البروات في البداية من المدرسة، ثم اشتريت الأقلام من المكاتب وبمختلف الألوان وكنت أبريها حتى أحصل على ما أريد من ألوان البروات. وجربت في البداية، حيث كنت أستفيد من البروة الخشبية ومن لون القلم المدهون بمختلف الألوان، وقمت في البداية بتخطيط اللوحة على الخشب، وانتقيت أول موضوع كان للفنان دريد لحام، وبدأت بعده بلصق البروات الخشبية وبشكل دقيق ومتقن وبطول بال لا حدود له. وبعد خمسة أشهر أنجزت لوحة الفنان دريد لحام وهو يحمل سلة زهور، وكانت البداية التي انطلقت منها، حيث اخترت فيما بعد مواضيع كثيرة من البيئة الشامية، ومنها الكتاتيب ونافخ الزجاج اليدوي، وأقمت أول معرض لأعمالي في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بدمشق سنة 1971، وضم 36 عملا من البروات الخشبية، وحازت تقديرا معنويا بسبب الجهد المبذول فيها والمهارة اليدوية العالية والفن الجمالي والتقنية والعمق الفني ووجود سماكات نافرة فيها بسبب البروات السميكة ولها أبعاد ثلاثة وظل ونور. وعلى الرغم من أنني استطعت في ذلك التاريخ أن أحصل على شهادة الحقوق من جامعة دمشق، وكان بإمكاني ترك التعليم وأن أصبح محاميا، فإنني لعشقي لهذا الفن الجديد الغريب والتصاقي به مع تلاميذ المدرسة قررت عدم العمل بشهادة الحقوق والتفرغ لهوايتي هذه مع التعليم». ويتابع سلطاني «حيث كنت أعمل فيها يوميا نحو 8 ساعات من المساء حتى ما بعد منتصف الليل، وكانت اللوحة تستغرق وقتا معي يتراوح ما بين الشهر والثلاثة أشهر، وبعد معرضي الأول دعيت لعدة معارض، فأقمت نحو 17 معرضا شخصيا في معظم المراكز الثقافية العربية والأجنبية بدمشق. وبعد أن أنجزت نحو 40 عملا شعرت بأن فني هذا يأخذ من وقتي وصحتي الكثير، فقررت الاستغناء عنه في السنوات الخمس الماضية. فالعمل الواحد حتى يصل لمرحلته الأخيرة ويكون جاهزا للعرض أقوم وبعد انتقاء الفكرة برسمها بالقلم الرصاص، وأنجزها بلصق البروات، وقد أعدل عليها كثيرا أثناء العمل كونها تحتاج لأشهر لتكتمل، فأغير في التفاصيل في الكثير من الأحيان. وأدواتي بسيطة جدا وهي كميات كبيرة من أقلام الرصاص أشتريها من المكتبات، والغراء الأبيض اللاصق، وبراية عادية، وملقط، ومشرط، ومقص لضرورات العمل، وأستخدم خلفية أحيانا من المخمل أو أجعل كل العمل مع الخلفية من البروات. كما أكتب بعض العبارات عليها ببروات القلم وألصقها بشكل فني لتخدم فكرة اللوحة وموضوعها، وأقدم الأشخاص بشكلها الواقعي كما هم، مثل طالب يقرأ في الغابة، وآخر يفكر أو يسأل شيخ الكتاب، وهناك مثلا عمل يتضمن جامع الجسر الأبيض التاريخي جسدته كما هو في اللوحة وبجانبه بائع الفول الذي ما زال موجودا». وحول إمكانية الاحتفاظ بلوحاته لفترة طويلة من دون أن تتلف قال سلطاني: «إذا لم تخرب بسبب حريق مثلا فقط فيمكن أن تبقى لمئات السنين، وحتى يمكن غسلها بالماء والصابون وتنظيفها من دون أن تتلف أو تتأثر محتوياتها، فاللوحة تتحول لتصبح وكأنها خشبة واحدة».