مركز «فورت إروين» يهب لمناصرة العراق

من خلال مدينة يعلو فيها صوت الأذان وحولت إلى عراقية بتجهيزات من هوليوود

ممثلان في «مدينة وصل»، القرية العراقية التي تحتوي على 200 مبنى في قلب «فورت إروين» (رويترز)
TT

داخل قاعدة الجيش القائمة في صحراء موجاف، يعمل ممثلون مهاجرون وعدد من التجهيزات الخاصة بهوليوود على إعداد الجنود الأميركيين للحياة والحرب التي باتوا على وشك خوضها. جلس بسام كالاشو، الذي تنطق كل قسمات وجهه بهويته العراقية، خلف مكتب ضخم في مواجهة ضيفه الأميركي.

عندما قاد سيارته متجها إلى عمله ذلك الصباح أخبر كالاشو الكولونيل التابع للجيش الأميركي، الذي وصل مؤخرا، أنه وجد الطريق مزدحما بنقاط تفتيش أميركية، بينما أحاط جنود أميركيون بمكتبه. وقال وصوته يزداد ارتفاعا مع كل كلمة ينطقها: «يبدو أنكم سيطرتم على الأمر».

وفي وقت لاحق، شرح كالاشو أنه في بعض الأحيان ينهمك لدرجة أنه ينسى أن مكتبه سالف الذكر يوجد داخل قاعدة تتبع الجيش الأميركي في كاليفورنيا، وأنه يتظاهر فحسب بأنه حاكم محلي عراقي.

داخل «مركز التدريب الوطني» في «فورت إروين»، داخل صحراء موجاف مترامية الأطراف، كثيرا ما يختلط الخيال بالواقع. عندما تعلو أصوات الأذان للصلاة بمختلف جنبات الصحراء الواسعة، تعج القرى بمشاهد وأصوات تنتمي في حقيقتها إلى بلاد بعيدة. يجتمع حشد من الرجال بالمقاهي، ويتجول الباعة عبر الأزقة الضيقة، حيث ينادون على سلع متنوعة بين فاكهة وأزهار وأقداح من الشاي، في الوقت الذي تمر مجموعة من الطائرات المروحية في سماء يغلب عليها لون قرنفلي شاحب.

تعد هذه واحدة من آخر المحطات التي تتوقف عندها الألوية العسكرية الأميركية المتجهة إلى العراق. خلال أسبوعين مكثفين من تقمص الأدوار، يتدربون على كيفية التعامل مع تفجيرات القنابل والمعارك بالأسلحة النارية والمظاهرات الغاضبة والمسؤولين الفاسدين والتوترات الطائفية.

ويقارن الجنود الذين يتولون إدارة هذا المشروع الأشبه بأفلام هوليوود بينه وبين برامج تلفزيون الواقع أو لعبة تبلغ تكلفتها عدة ملايين من الدولارات. إلا أنه بالنسبة لنحو 250 مهاجرا عراقيا، استأجرهم الجيش للاضطلاع بدور مسؤولين منتخبين وضباط أمنيين وزعامات تقليدية، يبدو الأمر أشبه بالتحرك داخل قطعة من الوطن. ويتركز الكثيرون منهم داخل القرية الرئيسية داخل المركز، وتدعى «مدينة وصل».

من ناحيته قال كالاشو، 54 عاما: «لقد اعتدت القيام بهذا الأمر على مدار فترة طويلة للغاية، والآن أصبحت مواطنا في مدينة وصل».

يذكر أن كالاشو لديه زوجة وابن يعيشان في سان دييغو، لكن على مدار أسبوعين من معظم شهور العام يعيش في واحدة من حاويات الشحن المعدلة التي تشكل معظم المنازل والشركات في مدينة وصل. ويجري توزيع صفحات من المعلومات على الممثلين الرئيسيين تتناول طبيعة الشخصيات التي يؤدونها، بما في ذلك الخلفية الدينية والانتماءات القبلية والسياسية. ويتعامل الكثيرون منهم مع هذه الأدوار باعتبارها امتدادا لشخصياتهم الحقيقية.

قال كالاشو: «اعتدت القيام بدور نائب عمدة مدينة وصل. عام 2008 حصلت على ترقية. الآن بات الأمر يروقني على نحو أكبر... وأصبح لدي حراس خصوصيون وسيارة، لقد أصبحت رجلا ذا نفوذ هنا».

أما داخل العراق الحقيقي فكانت الحياة مختلفة تماما بالنسبة لكالاشو، وهو نجل رجل مسيحي كان يملك فندقا داخل مدينة بابل التي ينتمي غالبية سكانها إلى المسلمين الشيعة. داخل المدرسة عانى من العزلة والاضطهاد، ومنذ ثلاثة عقود ماضية رحل عن العراق متجها إلى الولايات المتحدة، وانتقل للإقامة مع زميل دراسة وافتتحا محلا في كمبتون. كان المال الذي يدره المحل جيدا، لكن الجريمة التي عاينها شكلت عبئا بالغا على أعصابه.

كان كالاشو قد خطب لتوه عندما تعرض مالك أحد المحال المجاورة لإطلاق النار عليه والقتل، وعليه انتقل كالاشو في مطلع الثمانينات إلى سان دييغو، بحيث تتمكن أسرته من التمتع بدعم جالية عراقية مسيحية كبيرة. وعندما أراد الجيش الحصول على مساعدة في تدريب الجنود، جرى التركيز على أبناء هذه الجالية.

تتراوح أجور العراقيين العاملين في خدمة تدريب القوات الأميركية بين 2000 و5000 دولار مقابل كل أسبوعين، مما يفوق أجر معظم فرص العمل الأخرى التي قد يعثر عليها المهاجرون. لكن كالاشو، الذي أصبح مواطنا أميركيا الآن، أكد أن وراء عمله دوافع أخرى. في هذا الصدد قال كالاشو: «توليت هذه الوظيفة، ليس فقط لأنني أميركي وأرغب في القيام بشيء من أجل بلادي، وإنما لرغبتي في خدمة العراق أيضا». وأضاف أن الجنود «يفدون إلى هنا، ويقترفون جميع أخطائهم هنا، ولا يرتكبونها هناك». وأوضح كالاشو أنه لم يحسب من قبل أنه سيتعلم دروسا جديدة من هذه التجربة، حيث أشار إلى أنه في وقت من الأوقات دافع عن صدام حسين لحمايته الأقلية المسيحية بالعراق، لكنّ لقاءه بشيعة وأكراد داخل «فورت إروين» ممن عانوا من وحشية نظامه بدل وجهة نظره. علاوة على ذلك، كان من شأن العمل مع الجيش خلق نمط جديد من الاحترام في نفس كالاشو تجاه الجنود الأميركيين. وبرر ذلك بقوله: «لا يمكنك تخيل حجم التضحية التي يقدمونها حتى تتعرف عليهم عن قرب». على امتداد عقدين، قبل أن تغزو قوات بقيادة الولايات المتحدة العراق عام 2003، جرى استغلال المساحات الواسعة في «فورت إروين» لتنظيم تدريبات على معارك كبرى بالدبابات وإعداد الجنود للحروب التقليدية. لكن في العراق وجد الجنود الأميركيون أنفسهم يقاتلون متمردين يشنون ضرباتهم خلسة ثم يتلاشون بين السكان العاديين، وعلاوة على ذلك تسبب الجنود الأميركيون، المفتقرون إلى دراية باللغات والثقافة المحلية، في إثارة سخط المواطنين العراقيين.

من بين الحلول التي طرحها الجيش لهذه المعضلة إعادة خلق امتداد للعراق على مساحة 1000 كيلومتر مربع داخل «فورت إروين». وشارك في التدريبات أعضاء من سلاح المدرعات الـ11 ـ الذي يضطلع بدور «القوة المناوئة» في التدريبات ـ مرتدين زيا رسميا على النسق السوفياتي، وتوقفوا عن حلاقة ذقونهم وشرعوا في دراسة أساليب صنع العبوات الناسفة. وجرت الاستعانة بمقاولين لبناء معسكرات رديئة المستوى وشبكات معقدة من الأنفاق وقرى على النسق العراقي.

عندما شاهد كالاشو «مدينة وصل» للمرة الأولى عام 2005 لم يعد المكان كونه شريطا ممتدا من حاويات على طريق قذر. لاحقا، سعى الجيش للحصول على مساعدة هوليوود في إضفاء طابع أكثر واقعية على القرى، وعليه شرع البناؤون في نشر جص داخل الحاويات لإعادة خلق المناظر المميزة للقرى العراقية التقليدية. وكتبوا عبارات باللغة العربية على الجدران، وعمدوا إلى نشر ملابس على أحبال الغسيل، وملأوا سلالا بفاكهة بلاستيكية ووضعوا شاحنات مدمرة على الطريق.

تضم «مدينة وصل» حاليا ما يقرب من 200 مبنى، بل وتضم قطعانا من الماعز والحمير، لكن يجب تقييدها حماية لها من حيوان القيوط. ونجحت فرق العمل المعنية بالمؤثرات الخاصة في خلق أصوات تفجيرات مدوية، وأطلق ملثمون أعيرة نارية فارغة من شرفات المباني ومن داخل الأزقة، وعمد ممثلون رسمت فرق الماكياج على أجسامهم جروح ملطخة بالدماء إلى التلوي ألما والصراخ. وتحمل المشاهد طابعا واقعيا قويا بدرجة أثارت ذكريات لدى بعض الجنود، لكن الاختلاف يكمن في أن الموتى هنا ينهضون في نهاية الأمر على أقدامهم.

رغم زيف مشاهد إراقة الدم هنا فإن الحرب الحقيقية ليست بعيدة، ذلك أن الكثير من الممثلين لديهم عائلات في العراق من الممكن أن تتعرض للقتل إذا ما تسرب نبأ عمل أقاربهم مع المؤسسة العسكرية الأميركية.

على سبيل المثال، قالت سيدة، 42 عاما، تخفي وجهها خلف نظارة سوداء وطلبت عدم نشر اسمها، إن المسلحين أحرقوا خبازا محليا اعتادت الشراء منه حتى الموت داخل الفرن الخاص به؛ لارتكابه أمرا أهون من ذلك. يذكر أن هذه السيدة شيعية متزوجة من سني، وقد فرّت إلى سان دييغو العام الماضي. وقالت وعيناها مغرورقة بالدموع: «مشاهدة المسجد والناس تجعلني أشعر كأني في العراق. أفتقد وطني، أتمنى أن يساعد الله أميركا لإعادة بناء بلادي».

جدير بالذكر أن «فورت إروين» كانت أول منشأة تدريبية تتبع الجيش تستعين بمهاجرين عراقيين ومن دول شرق أوسطية أخرى لتنفيذ مثل هذه التدريبات، وذلك بداية من عام 2005، قبل ذلك اضطلع الجنود بالأدوار كافة. بوجه عام، يوجد أكثر من 2000 جندي ومدني في القرى التدريبية الـ13 الموجودة في «فورت إروين»، بينهم 240 مقيما من بارتسو القريبة، الذين يفدون إلى القرى يوميا مرتدين أثوابا طويلة فوق سراويل من الجينز. وبالنسبة للأدوار الناطقة استعان الجيش بعراقيين ومهاجرين من دول أخرى، ونظرا لأنهم يفدون من مناطق أبعد فإنهم يبقون داخل القرى التي باتوا يتعاملون معها باعتبارها قراهم.

من جانبه يبدي جنان، الذي سبقت له المشاركة كجندي في جيش صدام وتعرض لإطلاق غازات سامة عن طريق الخطأ من قبل رفقاء عراقيين في أثناء الحرب ضد إيران في الثمانينات، براعة في استخدام الأدوات المختلفة ويلعب دور مهندس. وقد نجح في تحويل المحل الخاص بالشخصية التي يلعب دورها إلى منزله له. وقال جنان، 50 عاما، الذي كشف عن اسمه الأول فقط حرصا على أقاربه في العراق: «أصبح هذا الآن منزلي».

مع تبدل ظروف الحياة في العراق حدث الأمر ذاته داخل «مدينة وصل». عندما تردى العراق في هوة الحرب الأهلية انقسمت «مدينة وصل» إلى أقسام تخص السنّة وأخرى مخصصة للشيعة، وتراكمت الكثير من الجثث خلال التدريبات. خلال هذه الفترة قال كالاشو: «لم تغفل عيوننا قط»، أحيانا كان الجنود المشاركون في التدريبات «يأتون إلينا في الثالثة أو الرابعة صباحا ويضربون الباب بعنف صارخين: اخرج! اخرج!».

لكن مع تناقص القتلى في العراق وجد الممثلون أنفسهم يقضون مزيدا من الوقت في عقد اجتماعات حول احتياجات الكهرباء والماء والصحة والتعليم.

في مساء أحد الأيام وجد كالاشو مؤيد صوفي في زيه الرسمي الشرطي يمارس لعبة البوكر مع أقرانه الأكراد، وعلق كالاشو على الأمر ضاحكا بقوله: «يشبه ذلك العراق تماما، حيث يجلس أفراد الشرطة في المقاهي طيلة اليوم، وعندما يطرأ أمر ما يذهبون حينها». عمل صوفي، 33 عاما، لحساب القوات الأميركية في شمال العراق خلال التسعينات، وكان حريصا على العمل معها مجددا بعد استقراره هنا. بعد وصوله إلى القاعدة بفترة قصيرة عام 2005 احتجزه أحد الجنود بزاوية وطالب بمعرفة ما يفعله العراقيون في «فورت إروين». أجابه صوفي وقد تملكه القلق: «أنا هنا لمساعدتك». وقال صوفي إن الجندي سحب ذراعه وطوقها خلف ظهره.

من ناحيتهم، سارع الضباط الأميركيون إلى الاعتذار عن سلوك الجندي وأنزلوا به عقابا، حسبما قال صوفي. وفي وقت لاحق علم صوفي أن الصديق المقرب لهذا الجندي لقي مصرعه في العراق.

الواضح أن العلاقات تحسنت كثيرا هذه الأيام. وقال صوفي: «إنهم يحترموننا».

في نهاية اليوم يحتشد العراقيون في فناء لشواء اللحم ولعب الدومينو حتى وقت متأخر من الليل، وتتعالى أصوات موسيقى عربية من المذياع، ومن وقت لآخر يقع صوت إطلاق رصاص من مسافة بعيدة ـ ربما في إطار هجوم تمثيلي آخر. وأعرب كالاشو عن ثقته في أن العمل الذي يقوم به العراقيون هنا ساعد في إنقاذ أرواح. ومع تحول الاهتمام إلى أفغانستان، يجري تحويل «مدينة وصل» من حين لآخر إلى قرية أفغانية، وأبدى كالاشو قلقه من إمكانية أن تقدم الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق في وقت مبكر للغاية، وقال: «علينا أن ننجز المهمة».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»