فيلمان وثائقيان عن أميركا وجارتها فنزويلا

«الرأسمالية: قصة حب» لمايكل مور و«جنوب الحدود» لأوليفر ستون

لقطة من «الرأسمالية: قصة حب» لمايكل مور
TT

«أنجزت هذا الفيلم لأجل أميركا. لكن هناك من سيتولى القول حين يعرض «الرأسمالية: قصة حب» هناك، بأني معاد لأميركا، وسوف يهاجمني على ذلك»، يقول مايكل مور لـ «الشرق الأوسط» في حفلة الغداء التي حل فيها ضيف شرف. ويضيف وهو يبتسم تلك الابتسامة المشاكسة: «أتعلم شيئا؟ أنا مستعد كما كنت دائما ويكفيني أنني لا أحاول بيع الأوهام بل فتح العين على ما يحدث عندنا بكل صدق. ليناقشونني فيما أطرحه. لا يستطيعون، لذلك سوف ينتقلون إلى الهجوم الشخصي والنعوت الخاوية. دائما ما فعلوا ذلك».

ليس بعيدا عنه جلس أوليفر ستون يستمع ويبتسم بدوره. هو الآخر لديه فيلم وثائقي معروض في هذه الدورة. كلاهما، مايكل مور وأوليفر ستون، من تلك المكاسب الحقيقية القليلة التي أنجزها المهرجان هذا العام إذ اختار عرض آخر إسهاماتهما.

فيلم مور الجديد لا يختلف عن أفلامه السياسية السابقة لا من حيث أسلوب العمل (ربيورتاجي مع مشاهد وثائقية ومع مقابلات وبمشاهد حية له، وهو يسعى لاستجواب الأطراف التي يعتبرها مسؤولة عن الوضع السلبي الذي يتحدث فيه) ولا من حيث الموضوع المطروح (اجتماعي سياسي حول قصور الإدارات الأميركية في حماية الشعب الأميركي من المؤسسات الكبرى). هنا ما هو جديد حقيقة أنه ينجز عملا يتناول فيه القضية الأكثر إلحاحا على الرأي العام الأميركي: هل يمكن الاستمرار بقبول النظام الرأسمالي الأميركي على ما هو وبما يوفره للبعض من فرصة الثراء غير المحدود على حساب إفقار الغالبية؟ ليس لدى مايكل مور شك على أن هذا النظام بحاجة إلى علاج، لكنه لا يقترح بديلا اشتراكيا مثلا، ولو أنه يترك للآخرين حرية المقارنة. ما يفعله هو اقتراح أنه بالإمكان إصلاح اعوجاج النظام الحالي من دون التخلي عن الديمقراطية والحرية وهو ما يرى أن الجشع في المؤسسات الأميركية المصرفية الضخمة قد تجاوزهما واستغلهما لمصلحته الخاصة. عبر بناء سينمائي كان يستطيع أن يكون أفضل شأنا مما جاء به، لكن لن يحاسب أحد المخرج عليه، ينطلق الفيلم في ساعتين لسبر غور التجربة الأميركية مع الرأسمالية، بادئا الفيلم بمحاكاة بين مصير الإمبراطورية الرومانية ومصير الولايات المتحدة إذ يرى أن أميركا سوف تنتهي كما انتهت تلك الإمبراطورية ـ أو هي على وشك أن تنتهي على هذا النحو.

حين يجيب مور بالتأكيد على احتمال وقوع النهاية ذاتها، ينتقل بنا إلى صاحب بيت فوق أرض كبيرة يمتلكهما منذ 22 سنة. لا يستطيع الآن دفع باقي ثمن البيت، وها هو مضطر لإخلاء المكان بعدما قام البنك بوضع اليد عليه. يقول الرجل إنه لا يفكر بسرقة المصرف، لكنه يتعاطف مع من يسرق المصرف «لأن عمل المصارف هو سرقة الناس». ويعاود المخرج التأكيد على هذا «البزنس» عبر تشريح ما تقوم عليه علاقة المؤسسات المصرفية اليوم بالأميركيين، وهي علاقة قائمة على السيطرة كاملا على شؤون الناس الاقتصادية والمالية وبل فعلها ذلك في صور شتى. المشهد المذكور حول رجل يخسر منزله ليس الوحيد، بل نرى منازل أخرى طُرد أصحابها منها، كما أن وضع اليد على تلك البيوت ليس الطريقة الوحيدة للاتجار بالأميركيين بل هناك، كما يشرح لنا عبر مشاهد ملتقطة ومقابلات وريبورتاجات أرشيفية، طرقا أخرى يجد المشاهد فيها جميعا ما يكفي لازدراء الجشع الذي يمتلك الفئة القليلة جدا ويدفعها للاتجار بمقومات الحياة لأفراد المجتمع الأميركي الحالي.

فيلم مور لا يحتاج إلى كثير وقت من قبل أن يتبلور كمنتقد صارم لا ضد الرأسمالية فقط، بل وبالدرجة الأولى، إلى تلك المؤسسات الضخمة في وول ستريت التي حولته إلى «كازينو» كما يقول وضمنت، بالعمل مع مصادر التشريع الأميركي ومن خلفه في أحيان كثيرة، تمرير قوانين وتغيير أخرى لصالحها وحدها. وهو يضرب رأس المسامير التي يضعها في نعش الواقع الحالي. لا يخطئ في التحليل لكنه يعترف أحيانا بأن الوسائل والتشريعات الملتوية التي تمارسها تلك المؤسسات الاقتصادية والمصارف الكبرى لأجل تقويض دعائم الحرية الفردية وسرقة المال العام من التعقيد بحيث يصعب على المحللين الاقتصاديين شرحها.

حين ينطلق المخرج في تحديد مسؤوليات البيت الأبيض في الفترات السابقة لباراك أوباما، وتحديد مسؤولية الكونغرس الأميركي وكيف أنه نام في ذات سرير تلك الشركات المستغلة ولا يزال، يطرق المخرج أبواب معرفة جديدة. لكن حين يصل إلى الحيّز الذي يصور فيه السقوط الاقتصادي الذي وقع حينما كان أوباما في وسط حملته الانتخابية فإن ما يقدمه الفيلم هو مكرر لما نعرفه جميعا. على ذلك قلما يفتقد الفيلم لعنصر الاهتمام، ولو أن بناءه ودخوله وخروجه بين عشرات القضايا المثارة تحت سقف الموضوع الكبير كان يمكن أن يكون أكثر تنظيما وتحديدا عوض السباحة في أكثر من اتجاه.

ومن ناحيته، يسبر المخرج الأميركي الآخر أوليفر ستون غور موضوع سياسي مختلف، ولو أنه لا يبعد كثيرا عن موضوع مايكل مور من حيث لقائهما على بحث الوضع الاقتصادي والسياسي الذي تمر به الولايات المتحدة حيال أزماتها.

في «جنوب الحدود» لستون الوضع المقصود هو فنزويلا وحكم واستراتيجية رئيسها هوغو شافيز الذي سبب، لإدارة جورج بوش (المُدانة في فيلم مايكل مور بالطبع) قلقا، فحاولت إحاطة جارتها اللاتينية بسوار من الصفقات التجارية مع الدول اللاتينية الأخرى على أمل أن يعزل ذلك فنزويلا، ويسهم في إبقاء خطرها الآيديولوجي في أرضه غير قابل للامتداد.

لكن الإدارة الأميركية السابقة ليست وحدها التي يتعرض لها ستون في فيلمه هذا، وهو الذي سبق وأن حقق أفلاما وثائقية قليلة من قبل، أحدها كان «غير مرغوب به» عن الرئيس الراحل ياسر عرفات وآخر له كان عن حياة الزعيم الكوبي فيدل كاسترو.

ستون يتعرض أيضا للأوساط الإعلامية المسجّلة في خانة اليمين بين المحطات التلفزيونية العاملة. تحديدا محطتي «سي إن إن» و«فوكس نيوز». الأخيرة يستعير منها ستون رأيها (الذي لا يخلو طبعا من التطرف) حول هوغو شافيز وشخصيّته. من يرى ويسمع ما يطلقه ذلك الإعلام على شافيز يعتقد أنه يتحدث عن قاتل أطفال مثلا أو رئيس عصابة مافيا أو مؤسسة إرهابية. لكن ستون لا يحاول أن يتوسط الحالة حين يتحدث هو عن شافيز. بالنسبة إليه هو الصورة المضادة تماما لنعوت اليمين وليست هناك أرض وسط أو منطقة رمادية ما في شخص الرئيس الفنزويلي أو في سياسته ونظامه السياسي والاقتصادي. مشكلتان يواجههما ستون في هذا الصدد: الأول أنه على الرغم من حبه للمواضيع الوثائقية التي يقدم عليها وحماسه للقضايا التي تشاكس السائد السياسي والرسمي الأميركي (والشعبي إلى حد كبير أيضا) إلا أن أفلامه لا تحمل ذات الحدة والإلحاح اللذين تحملهما أفلام مايكل مور بالمقارنة. وبسبب عدم إلحاحها تفقد القدرة على إثارة النقاش وإحداث الضجة التي تستحق، هذا مع العلم بأن «جنوب الحدود» هو أفضل من فيلميه السابقين عن ياسر عرفات وفيدل كاسترو من الناحية الفنية البحتة.

المشكلة الثانية، أن ستون إذ يهاجم إدارة بوش ويحاول إثبات خطأ سياسته حيال شافيز، يُعيد إلى الذاكرة، من دون قصد، حقيقة أن فيلمه الأخير مال إلى تقديم رئيس يمكن غفران زلاته لأن الكثير مما أقدم عليه عائد إلى شعوره النفسي بأن عليه إثبات جدارته بعيدا عن أبيه، وفي ذات الوقت تقديم الدليل لأبيه بأنه يستطيع أن يكون شخصا ناجحا في البيت الأبيض كما كان بوش الأب.

ومع ذلك المنوال من الطرح في فيلمه الروائي الذي ظهر على شاشاتنا في العام الماضي، فإن الفيلم تحاشى الانضمام إلى ركب رافضي بوش، ووجد نفسه في صف من المعارضين أو المنتقدين المعتدلين. إذ ينتقل إلى فيلم يرمي إلى إدانة سياسة بوش بالنسبة للجوار اللاتيني بأسره، فإن ذلك يبدو كما لو كان قريبا من الانتقال بين المواقع حسب حاجة المادة المطروحة وليس حسب القناعة الشخصية ولو أن ستون دائما ما تعامل مع السينما ذات الطروحات الانتقادية.

ستون يوفر غطاءً من المقابلات الشخصية مع رؤساء دول لاتينية أخرى بهدف إثبات طروحاته السياسية، ولا غبار على ذلك. لكنه أيضا لا يوفر جديدا حين يتحدث عن أن السياسة الأميركية تجاه شافيز مدفوعة بخشيتها من أن تخسر اتفاقاتها النفطية مع الدولة التي تملك أكبر مخزون نفطي في القارة اللاتينية إن لم يكن في كل القارة الأميركية.

الاستماع إلى ستون ومور يتحدثان حول فيلميهما يُفيد في ملاحظة أن كليهما يحاول إنجاز سينما سياسية في وقت عصيب متوخيّا دورا أساسيا في فتح العين على موضوعه المختار. هذا مشروع بالطبع والمشكلة ليست فيما يعرضانه أو في موقفهما السياسي، فهذا نابع من الحرية الفردية والإبداعية التي يتمتّعان بها. كذلك ليس في صلب ما يعرضانه كونهما لا يبتدعان شيئا من لا شيء. ما هو مثير للملاحظة أن اليمين السينمائي الأميركي لا يملك طاقما من المخرجين يساوي شهرة وقدرة مور وستون وموريس إيرول وسواهم من المخرجين اليساريين، لذلك فإن ما لدى ذلك اليمين هو صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية تهاجم الفعل في ردات فعل متأخرة وغالبا مفيدة للفيلم المنتقد إذ تجلب الجمهور الفضولي الذي يريد أن يعرف أين يقف الأميركي من كل ما يواجهه من أوضاع وأزمات.