السينما الأميركية تنقذ مهرجان البندقية من ضعف مبكر

مات ديمون وستيفن سودربيرغ يتألقان في «المخبر»

مات دامون يتآمر في فيلم «المخبر»
TT

مثل سيارة قديمة تحاول الإقلاع لكن موتورها يرفض الانصياع في مطلع الأمر، بدت الأيام الخمسة الأولى من هذا المهرجان قبل أن يذعن المهرجان للأعباء الملقاة عليه ويستجيب لدواعي إثبات أن ما سمعناه عن دورة لم يقع لها مثيل منذ سنوات بعيدة، هو أكثر من كلام للاستهلاك الإعلامي.

الأفلام الأولى التي تكبدناها لم تنجز هذا الوعد. من «بيارا»، فيلم الافتتاح الإيطالي إلى «ما بين عالمين» الفلبيني، ومن «الحياة في زمن الحرب» الأميركي إلى «حادثة» الصيني و«الرجل الرصاصة» الياباني و«أمير الدموع» التايواني، بدا كما لو أن الدورة سقطت تحت عبء حالة من عدم القدرة على الخروج من أزمة المتداول عالميا. المهرجان، أي مهرجان، لا يستطيع ابتداع الأفلام وعليه أن يختار من بين ما توفره السينمات العالمية محاولا انتقاء الأفضل. رغم ذلك، فإن سلسلة من الأفلام دون الوسط، وفي حالات معينة، كما في «الحادثة» و«الرجل الرصاصة» لا تصلح مطلقا لمهرجان دولي بمستوى فنيسيا، كفيلة بأن تصيب المرء بالريبة عما إذا ما كان المهرجان قادرا على المضي قدما جارا مثل هذه الأعمال عوض أن تجره هي.لكن منذ يومين وسلسلة أفضل من الأفلام تتوالى لتعيد البسمة إلى وجوه الحاضرين. لسبب قد لا يخفى على متابعين عديدين، فإن السينما الأميركية مسؤولة إلى حد كبير في بث تلك الشحنة من الأمل وإذا ما سار كل شيء على ما يرام فإنها لن تخرج من هذا المولد بلا جائزة إلا إذا ما جاءت الأيام القليلة المقبلة بأعمال أوروبية أو آسيوية أفضل مما شوهد من الأميركية إلى الآن.

فيلم مايكل مور معبأ بالرسالات السياسية التي تنتقد، كما ذكرنا في التقرير السابق، الوضع الاقتصادي والمسؤولين عنه. لكن «المخبر» لستيفن سودربيرغ ينحي الموضوع ذاته إلى جانب بعيد. إنه ما زال مبنيا على حادثة حقيقية (تم تحوير بعض أحداثها وكل أسماء المشتركين فيها)، لكنه يتوسط المسافة بين إعادة سرد حادثة تاريخية لم نسمع بها بالضرورة، وبين تقديم سينما من الخيال غير الجانح. خيال لا يزال يستند إلى ما يحدث حولنا من نتائج الأزمة الاقتصادية التي تحدث عنها مايكل مور في فيلمه الوثائقي «الرأسمالية: قصة حب».

فيلم سودربيرغ (الأفضل له منذ سنوات) بعنوان «المخبر» ويدور حول ذلك الموظف المعين مديرا لأحد الأقسام في مؤسسة صناعية كبيرة. إنه رجل متزوج وله ثلاثة أولاد (اثنان منهما بالتبني كما يقول لاحقا) اسمه مارك ويتيكر (ويؤديه بطلاقة مات دامون). إنه يرغب في تحسين موقعه في الشركة التي يعمل بها، لكنه لا يتطلع إلى أي منصب أعلى من منصبه، بل يتطلع إلى أعلى منصب: إدارة الشركة بأسرها. وطريقته إلى ذلك الادعاء بأنه يتسلم مخابرات على هاتف منزله من رجل غامض يعرض كشف اسم موظف سابق يغذي أعداء هذه الشركة بالمعلومات المهمة حولها، ويتسبب في نشر فيروس يعرقل مساعيها وأعمالها.

في هذه الحال تطلب الشركة من «إف بي آي» (متمثلة في رجل رزين اسمه برايان ويؤديه سكون باكولا) التدخل. يستمع إلى مارك وهو يؤكد ما يعرفه لكنه يعارض وضع جهاز تجسس على خطه الهاتفي في البيت حيث يتسلم تلك المكالمات لكن في المقابل يرضى بأن يكون مخبرا على شركته لحساب «إف بي آي». هنا فرصته لكي يرسل بجميع المديرين إلى السجن لتلاعبهم بالحسابات وإنجازهم مئات ملايين الدولارات لحساباتهم الخاصة. وهو ينجح في هذه المهمة أيضا لكن في الوقت ذاته يجد أن الخناق يطاله، فقد تم الكشف عن أنه من المتلاعبين الذين سجلوا إيرادات غير مصرح عنها. قيمة هذه الإيرادات؟ يعترف مارك، في وجود محاميه، بخمسة ملايين، ثم بسبعة ملايين وسبعمائة ألف دولار، ثم يلقي رقما آخر في جلسة لاحقة: تسعة ملايين دولار. خلال وجوده في السجن يقول لمحقق «إف بي آي» بشكل عارض إنه سرق من الشركة أحد عشر مليون دولار.

فكاهة الفيلم مبنية على شخصية مارك ـ وأداء دامون المثير لها ـ التي تكذب في كل شيء وعلى كل الأطراف. بل هو يكذب في نشأته فيدعي أن والديه ـ اللذين ما زالا حيَّين ـ ماتا في حادثة سيارة فتبناه ثري صرف عليه ليتخرج في الجامعة. السبب؟ لقد أدرك في مطلع عهده بالعمل أن الناس تتعاطف مع الأيتام الناجحين أكثر مما تفعل حيال الغالبية الأخرى.

خارج المسابقة فيلم أميركي رائع أفضل عملا من فيلم سودربيرغ ومن معظم ما شوهد في المسابقة ذاتها. إنه «أفضل بروكلين» أو Brooklyn"s Finest لمخرجه أنطوان فوكوا: أفرو ـ أميركي يعمل منذ سنوات بنجاح ولو أن الشهرة تأتيه ثم تنحسر عنه حسب إقبال أو تراجع الإعلام عليه. قابلته لنحو ساعة قبل العرض وأكد على ضرورة أن أشاهد فيلمه الجديد هذا الذي كنت سأشاهده على أي حال. ويا لها من تجربة رائعة! سابقا شاهدنا العديد من الأفلام التي تدور في أحياء نيويورك المختلفة وقوامها رجال بوليس رماديون وأشرار أفرو ـ أميركيون أو كما في حال فيلم بول هاجيز «صدام» (2004) أو في فيلم واين كرامر «عبور» أو Crossing Over في مطلع هذا العام. لكن في فيلم فوكوا الجديد «أفضل بروكلين» دفعة أمامية لهاتين الصياغتين: كفيلم بوليسي عن عصابات نيويورك، وكفيلم قائم على شخصيات لكل منها قصتها المنفصلة التي تلتقي تسير متوازية حينا وملتوية حينا آخر لتلتقي عند نقاط ذات أهمية درامية وصدامية مطلقة.

هنا لدينا ثلاث شخصيات كل منها تقود جانبا من هذا الفيلم، إيدي (ريتشارد غير) رجل بوليس محبط على أهبة التقاعد يُطلب منه تمرين رجال بوليس جدد في الميدان. أول هؤلاء شاب مندفع بأحلامه لأن يكون شرطيا ومتحمسا لفعل الشيء الصحيح وينتهي مقتولا بعدما انتقلت عهدته إلى شرطي آخر. البديل شاب يترك لعاطفته التدخل في واجبه فيقتل لاتينيا غير مسلح بسبب خوفه. في هذه الحالة، يرفض إيدي تغيير إفادته ويدخل الشرطي الشاب العقاب المشروع لجريمته. إيدي مطلق ولديه عشيقة ولا يملك مستقبلا. حزين الجانب. محبط وهو يرى العالم اليوم غير ما كان عليه حين انضمّ إلى السلك البوليسي. في آخر الفيلم يضع رصاصة في مسدسه لينتحر بها.

الثاني هو تانغو (دون شيدل) ويعمل مخبرا لحساب البوليس. أفرو ـ أميركي تربطه صداقة مع كاز (وسلي سنايبس) الذي يتعاطى تجارة المخدرات. البوليس لديه ما يبتز به تانغو لكي يبلغ عن كاز، لكن هذا يرفض. تتوالى الأحداث ويتعرض كاز للقتل على أيدي مسلحين وهو ما يدفع تانغو للانتقام.

وهناك شخصية سال (إيثان هوك) وهو رجل بوليس متزوج وزوجته مريضة بالربو بسبب الرطوبة في البيت الصغير والمتواضع الذي يعيشان به مع أولادهما. في مطلع الفيلم يرتكب سال جريمة قتل ليسرق. ولاحقا سنرى محاولات سال لسرقة مال مخدرات أخرى من خلال المداهمات التي يقوم بها البوليس... ويفشل لأن الظروف ليست صحيحة.

النهاية تجمع الشخصيات الثلاث في مكان واحد، اثنان يموتان والثالث يبقى حيا. كل شيء في الفيلم مصنوع بخبرة ودراية وإجادة في كل شيء، من تنفيذ اللقطة الواحدة داخل المشهد، إلى تصميم المشاهد بأسرها وربط بعضها ببعض بحركة كاميرا رائعة ولو أن عليك أن تلحظها منفصلة لأنها لا تنشد فرض نفسها على المشاهد. أما الممثلون المذكورون وغير المذكورين فإنك تريد أن تراهم في أفلام أخرى بلا ريب. إجادتهم لأدوارهم تجعلهم جزءا من الحياة المعاشة وليس جزءا من الديكور كما الحال في كثير من الأفلام.