انقطاع التيار الكهربائي يعيد الحياة إلى معامل الثلج القديمة في لبنان

أحد الباعة القدامى: الفرنسيون شجعوا الوجهاء على إنشاء معامل لإنتاج الثلوج

مع انتشار البرادات والثلاجات في البيوت اللبنانية في منتصف الخمسينات بدأت صناعة الثلج تنحسر شيئا فشيئا وبدأت المعامل تقفل أبوابها (أ.ب)
TT

تعرف اللبنانيون أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، وتحديدا في عام 1930، إلى صناعة الثلج على أيدي الفرنسيين، وذلك بعدما كانوا ينقلون الثلوج من الجبال العالية على ظهور البغال والحمير، ليستخدمها الباعة وأصحاب المطاعم في حفظ سلعهم الغذائية وتحديدا اللحوم والأسماك، والمرطبات في فصل الصيف، مع ما في هذه الوسيلة من احتمالات تلوث وهدر للثلج المنقول مسافات طويلة.

وإذا كان من المفارقات أن يتحول الثلج في بلد الثلج، أو بلد اللبان (نسبة إلى البياض الذي يكلل قممه) صناعة، فإن غياب التيار الكهربائي في ذلك الحين هو الذي طور استخدام الثلج من حمولات منقولة من الجبال إلى معامل بكل ما للكلمة من معنى تصنع الألواح والمكعبات، فضلا عن الثلج المبشور، أما الاستخدامات فهي ذاتها للثلج الطبيعي والثلج المصنّع، والتي كانت تشمل كل لبنان ساحلا ووسطا ـ وجبلا بنسبة أقل ـ ولا سيما في فصل الصيف وأشهُر الحرارة الأخرى.

ويتذكر أحد باعة الثلج القدامى الذي مارس المهنة أكثر من 40 عاما في صيدا والجنوب كيف كانت تنقل الثلوج من جبال لبنان على ظهور البغال والجمال والحمير، ليوزع ما يتبقى منها بعد الذوبان على أصحاب الحاجة في المدن بقروش قليلة.

ويؤكد درويش الأشقر، الذي تجاوز الثمانين من العمر، لـ«الشرق الأوسط» أن «الفرنسيين هم الذين نصحوا اللبنانيين بالتخلي عن نقل الثلوج بالطريقة السائدة لكونها غير سليمة وغير صحية، وشجعوا بعض وجهاء العاصمة والمدن الكبرى على إنشاء معامل لإنتاج الثلوج، وقرنوا النصائح بالعمل الجاد فساعدوهم على استيراد الآلات والمعدات من فرنسا، وعلى تدريب العمال وإدارة المعامل التي انتشرت على طول الساحل اللبناني من طرابلس إلى صور، مرورا ببيروت وجبيل وصيدا والصرفند وصور وحتى زحلة في البقاع».

ومع انتشار البرادات والثلاجات في البيوت اللبنانية في منتصف الخمسينات بدأت صناعة الثلج تنحسر شيئا فشيئا، وبدأت المعامل تندب أيام العز وتقفل أبوابها واحدا تلو الآخر، بعد توقف الكثير من استخدامات الثلج المصنع، لا سيما في المطاعم والمنازل لحفظ المأكولات واللحوم، وتبريد مياه الشرب، وحفظ جثث الأموات في المستشفيات، وصناعة «البوظة العربية» التي كانت تعد باليد، وتبريد المرطبات والمشروبات والفواكه.

لكن انقطاع التيار الكهربائي المتمادي في لبنان أعاد الروح إلى ما تبقى من تلك المعامل المتخصصة في هذه «الصناعة البيضاء»، ومنها المعمل المعروف في مدينة صيدا الجنوبية بمعمل «امبريس» الباقي وحيدا في صيدا بعد إغلاق المعمل الثاني الذي كان قائما عند مدخل صيدا الشمالي ويملكه إلياس الهاشم، وينتج نحو 1500 لوح يوميا. والمعمل الباقي على قيد الحياة هو أصغر حجما وقد أقيم داخل مطحنة للعائلة نفسها، ومع إقفال معمل الهاشم نقل معمل «امبريس» إلى المدينة الصناعية في صيدا، ولا يزال يعمل بعد تأجيره إلى جمال جلول، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ننتج يوميا بين 400 و500 لوح تغطي استهلاك مدينة صيدا والقرى والبلدات المجاورة، ويزداد الطلب بالطبع في فصل الصيف أكثر من الفصول الأخرى، ولا سيما في ظل التقنين الكهربائي المتواصل والمتصاعد. ولكن هذا التقنين يزيد من تكاليفنا بحيث نفطر لتشغيل مولدنا الكهربائي الخاص ونتحمل أعباء أسعار المازوت، إضافة إلى فاتورة الكهرباء. وقد قاومنا ارتفاع التكاليف بالاكتفاء بعامل إلى جانب ابن شقيقي».

ويشرح جلول نوعية الآلات التي يستخدمها في المعمل، فيشير إلى ثلاثة رئيسية، أولاها لإنتاج الألواح الكبيرة والمستطيلة إلى حد المتر الواحد للقطعة التي تحتاج إلى ثماني ساعات داخل حوض مائي فيه ملح خاص وأنابيب مملوءة بالمياه الحلوة وتغمرها المياه الممزوجة بمادة الأمونياك المستوردة من فرنسا. وغالبا ما تستخدم هذه الألواح في البرادات الكبيرة عند انقطاع التيار الكهربائي أو تكسر لحفظ ما بقي من اللحوم لدى القصابين. والآلة الثانية مهمتها بَشْر الألواح بواسطة شفرة حادة من الفولاذ على قاعدة حديدية، وبمجرد الضغط عليها تخرج من فتحتها السفلية الثلج المبشور الذي يستخدم لتبريد السمك وحفظه، وخصوصا لدى الباعة المتجولين. كما يباع للمطاعم التي تقدمه مع المرطبات والفاكهة. أما الآلة الثالثة فمخصصة لصنع مكعبات الثلج التي تستعمل في المشروبات، وتباع مغلفة بأكياس النايلون بألفي ليرة للكيس الواحد، كما توضع هذه المكعبات في أكياس من المطاط لتبريد رؤوس المرضى الذين يعانون من ارتفاع درجة الحرارة، وحفظ جثث الموتى قبل دفنها.

وكما يتولى جلول توزيع الإنتاج بسيارته، يتولى في الوقت نفسه أعمال الصيانة الدورية، مستعينا بقطع الغيار في المعامل المتوقفة، وإذا اضطر يلجأ إلى الاستعانة بالمخارط، باعتبار أن فرنسا توقفت عن إنتاج قطع الغيار لهذه المعامل.

ونحن لا ننسى استعمال القطع الثلجية في «البوظة العربية»، حيث كانت توضع في برميل خشبي في وسطه وعاء نحاسي يحتوي على المكونات من حليب وشيكولاته وفريز (فراولة)، ويحرك الوعاء النحاسي لعدة ساعات حتى يتجمد ما في داخله، فيجمع ويدق لجعل البوظة ناعمة.