«حارة اليهود» في القاهرة تعود للأضواء وسط جدل ثقافي وأثري

أنشئت عام 1848 ولا تزال تحمل تاريخهم وبصمتهم

أطلال معبد يهودي بالحارة
TT

تكاد تختصر هذه الحارة تاريخ اليهود في مصر، ورغم رحيلهم عنها منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وتغير معالمها، فإنها لا تزال تحمل ملامحهم ورائحتهم. وفي الآونة الأخيرة عادت «حارة اليهود» إلى الأضواء على أثر قرار هيئة الآثار ترميم معبد موسى بن ميمون بالحارة وهو القرار الذي أثار جدلا ثقافيا واسعا، وتزامن ذلك مع حملة اللوبي الصهيوني ضد ترشيح وزير الثقافة فاروق حسني لرئاسة اليونسكو، وهو ما تم اعتباره مغازلة لهم من جانب الهيئة التابعة لوزارة الثقافة.

لكن هذا الجدل حول ترميم المعبد أعاد إلى الأذهان تاريخ الحارة ووجود اليهود بها، وهى الحارة التي يلاحظ الزائر لها أنه لم يتبق منها سوى اسمها، أو بالأحرى أطلالها.

تقع الحارة في قلب أحد أشهر الأحياء المكتظة بالسكان والتجار على السواء، وهو حي الموسكي بالقاهرة، الذي يقع بدوره في منطقة القاهرة التاريخية العتيقة، وتتجاور فيها آثار ترجع إلى عهود تاريخية متباينة تنتمي إلى العصر الإسلامي.

ومع نزوح وهجرة جل سكان الحارة من اليهود، في فترات متنوعة كان أغزرها في فترة القومية الاشتراكية بعد ثورة يوليو 1952، لم يعد يتبق منهم أحد، باستثناء سيدة عجوز كانت آخر عنقود اليهود في مصر، ظلت تصارع الوجود في هذه الحارة، إلى أن اختفت بدورها عن الأنظار. ويؤكد السكان أثناء زيارة «الشرق الأوسط» للحارة، أنها توفيت بعد نقلها إلى المستشفى الإيطالي بالقاهرة بواسطة السفارة الإسرائيلية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الحارة التي أضحت أثرا بعد عين لا تزال تحتفظ باسمها. مما يعكس أنها جزء من تاريخ مصر، كونها حارة مصرية وسكانها اليهود يحملون الجنسية المصرية، إلا أن انتماءهم لوطنهم ظل مشكوكا فيه. وتأكد ذلك فيما بعد بهجرتهم إلى إسرائيل فرادى وجماعات عقب تأجج الصراع العربي الإسرائيلي، وتفضيلهم الذهاب إلى أرض الميعاد على الاستمرار في مجتمع اعتبرهم جزءا من نسيجه الوطني طوال نشأتهم فيه.

جورج حنا ـ أحد سكان الحارة ـ يؤكد أن العجوز اليهودية الوحيدة التي فضلت البقاء في مصر، وتحديدا في الحارة التي أمضت سنوات حياتها فيها، قاومت ضغوط الطائفة اليهودية والسفارة الإسرائيلية الرامية إلى رحيلها إلى إسرائيل، وتشبثت بالبقاء في الحارة، لتموت فيها كما عاشت. وكانت تؤكد لكل من كان يزورها، أنها مصرية وليست إسرائيلية، ولن تهاجر إلى «تل أبيب».

كانت تدعى «ماري»، وتنتمي إلى عائلة «سموحة» السكندرية الشهيرة. وكانت تعيش في مجمع إيواء فقراء اليهود، الموجود داخل الحارة، والذي يطلق علية اليهود لفظ «قدش»، ويقال إنها توفيت عن عمر يزيد على الثمانين عاما.

وطنيتها المصرية لم تمنعها من ممارسة شعائرها اليهودية. فكانت تحرص، حسب «عم سيد» صاحب محل صهر الحديد بالحارة، على الذهاب إلى معبد «هاثما يم»، أو ما يعرف بـ«بوابة السماء»، القائم في شارع عدلي بوسط القاهرة، وذلك يوم السبت من كل أسبوع وفي احتفالات الأعياد الرسمية التي تقيمها السفارة الإسرائيلية.

والحارة ليست حارة بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إنها تضم العديد من الحارات والأزقة المتفرعة منها، ولذلك تعتبر حيا كاملا به حوالي 360 حارة متصلة بعضها ببعض، وكانت بمثابة الـ«جيتو» اليهودي في مصر. وجميع هذه الأزقة تتميز بالضيق الشديد، حيث قد يصل عرض الحارة الواحدة إلى مترين فقط، أو أقل من ذلك، تتفرع في ممرات أخرى من الحارة الأم.

ويلاحظ زائر الحارة اكتظاظها بالمباني السكنية والمحال التجارية، والصناعات والورش المختلفة رغم تغير معظم مباني الحارة القديمة، وتغير معالمها.

ضمت الحارة شوارع صغيرة بأسماء يهودية، لا يزال كثير من سكان الحارة يتذكرونها، كحارة «ابراهام» وحارة «يعقوب» وغيرهما، إلا أنها تحولت تاليا إلى أسماء أخرى، مثل «درب نصير».

لكن الحارة صمدت باسمها، فلم يتغير، لتصبح كما هو حاصل في معظم الشوارع أو الحارات التي تتغير معالمها، حيث يسبقها دائما «شارع أو حارة كذا.. سابقا». فسكانها ليسوا هم سكانها السابقون، وحاراتها الفرعية، ليست هي نفسها التي كان يسكنها اليهود، وأصبحوا حاليا من المسلمين والمسيحيين.

والزائر للحارة قد يلاحظ أطلالها التي أصبحت عليها منذ سنوات طوال. وتحمل الأطلال الأسماء المنقوشة على بعض المنازل والتي تدل على يهودية أصحابها مثل «موسى ليشع عازر، 1922» بالإضافة إلى النجوم السداسية الحجرية أو المعدنية، وهي أشهر الأيقونات اليهودية التي ما زال يحتفظ بها سكان الحارة رمزا وتاريخا شاهدا على أن اليهود كان لهم هنا أثر وتاريخ شرعي، تركوه إلى اصطناع تاريخ آخر في فلسطين المحتلة. ومن بين الأطلال أيضا بعض المعابد الصغيرة، التي تم تحويل بعضها إلى مساجد، بعض أن هجرت وأصبحت خلاء.

سكن «حارة اليهود» ما يزيد على 5 آلاف يهودي، اعتادوا كأقرانهم في شتى بقاع العالم، الانعزال عن المجتمع في تجمع مغلق والتمسك بهويتهم الدينية اليهودية.

وحسب الدراسات التاريخية يرجع تاريخ إنشاء الحارة إلى عهد إنشاء حي الموسكي ذاته نحو عام 1848. وتذهب بعض الدراسات إلى أن الحارة أنشئت بأمر السلطات المصرية كمظهر من مظاهر الاضطهاد الديني. فيما تذهب بعض الدراسات الأخرى، وهي الأقوى حسب المؤرخين، إلى أن اليهود أنفسهم هم الذين أنشأوا «الجيتو» أو حارة اليهود لأنهم كانوا يميلون دائما إلى العزلة والحياة متقوقعين على أنفسهم، وأن السلطات بريئة من تهمة حصرهم في مكان محدد.

ووفقا لسكان الحارة الحاليين، فإنهم لم يكونوا يوما يتعرضون لليهود في ممارسة شعائرهم الدينية. وينقلون عن أجدادهم أنه عند احتراق المعبد اليهودي عام1947، أعلنت الحكومة المصرية تحملها إعادة بنائه على نفقتها الخاصة، ولكن في مكان آخر، ووقتها رفض رئيس الطائفة، وقامت الطائفة بإصلاحه على نفقتها الخاصة في المكان نفسه. ومن أبرز اليهود الذين عاشوا في الحارة، ويتذكره سكانها سوسو ليفي، الساعاتي الذي هاجر إلى إسرائيل، والخواجة ماندي التاجر الشهير، والخواجة داود، المتخصص في كتابة الكمبيالات، والعرافة راشيل التي كانت تشتهر بـ«فتح الكوتشينة» وكان زبائنها من مختلف الملل والنحل. كما يتذكر عدد من سكان الحارة ببا، صاحبة أشهر فاترينة طعام في الموسكي، ويؤكد أهالي الحارة أنها كانت تطهو المأكولات الشرقية بطريقة ممتازة، ومنها الفول بـ«خلطة ببا السرية»! ومن كثرة زبائنها كان من الصعب أن تشتري منها بعد الساعة الحادية عشرة صباحا، حيث تكون قد باعت كل المأكولات التي طهتها.

ومن بين المعابد التي كان اليهود يستخدمونها لممارسة شعائرهم في الحارة، معبد «أبو حايم كابوسي» بدرب نصير في الحارة، بجانب معبد «بار يوحاي» بشارع السقالية. بالإضافة إلى معبد «موسى ابن ميمون»، الذي أصبح ترميمه موضع جدل اليوم. المعبد بني بعد وفاة ابن ميمون الفيلسوف والطبيب اليهودي الشهير عام 1204م، وكان واحدا من المقربين للملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وأحد أهم وزرائه ومستشاريه. وبداخل المعبد سرداب، كان يدخله الزائرون حفاة الأقدام إلى «الغرفة المقدسة»، التي رقد بها جثمان صاحب المعبد، وقبل نقله إلى طبرية بفلسطين.

وتاريخيا، بلغ عدد اليهود في مصر حوالي 150 ألفا عام 1939، منهم 5 آلاف كانوا في حارة اليهود. وفي عام 1948، أخذ اليهود يهاجرون من مصر تباعا بمحض إرادتهم أثناء حرب فلسطين، حينما ساد الشعور العام في مصر بالعداء لهم، إلى أن تزايدت هجرتهم بعد ثورة 23 يوليو، وخاصة بعد العدوان الثلاثي عام 1956، ووصلت العجلة في الرحيل ذروتها للدرجة التي دفعتهم لبيع أملاكهم في مصر عموما، والحارة على وجه الخصوص، بأي ثمن. وغالبا ما كان البيع يتم لصالح العاملين لديهم، ويشير البعض إلى أن ذلك كان بهدف استعاده هذه الأملاك مرة أخرى عند تحسن الظروف. وبلغ عدد اليهود المهاجرين من مصر إلى إسرائيل في الفترة من 1949 إلى 1951 ما بين 15 إلى 20 ألفا من اليهود أي نحو 20% من إجمالي عدد اليهود في مصر آنذاك.

ومع الهجرات المتزايدة، كانت تواجه اليهود مشكلة في آخر أيامهم بالحارة، عندما لم يتبق منهم سوى 30 امرأة وخمسة رجال فقط، لأن الشريعة اليهودية تشترط إقامة صلوات السبت في وجود عشرة رجال على الأقل. ولذا، فقد عانى اليهود من عدم الصلاة جماعة، وكانوا يقومون بالصلاة فرادى، وهو أمر عظيم حسب شريعتهم. مما دعا الحاخام الإسرائيلي «ألبير شيرازي» إلى أن يدعو إلى الحضور إلى مصر في عيد رأس السنة العبرية وعيد الفصح لإقامة شعائر الاحتفال في الحارة، في النصف الأخير من القرن الماضي.

وحسب سكان الحارة، فإن اليهود كانوا يفضلون طعام «الكوشير»، المجهز على الطريقة الشرعية وفق التقاليد الدينية اليهودية. فيما كانت تقام مخابز خاصة بهم لإنتاج الخبز والفطائر الملائمة لكل الأعياد الدينية اليهودية.

وكان هناك مخبز في ميت غمر (شمال القاهرة) ينتج «الماتسا»، وهو خبز غير محمر يتناوله اليهود المتدينون طيلة الوقت. أما اليهود غير المتدينين، فكانوا يستعملونه فقط في الأعياد الدينية وخاصة في عيد الفصح أو «البيسنح». وكان هناك فرن آخر أيضا في الحارة لخدمة اليهود. والطعام «الكوشير» لا يقتصر فقط على الخبز بل يتعداه إلى اللحوم، حيث لم يكن مسموحا لليهود بتناول لحوم غير مذبوحة على غير الطريقة اليهودية.

* كلام الصور:

1- حارة اليهود.. تجارة وإعاشة 6- حارة اليهود تعلن تضامنها مع غزة