لبنان: الجيش يفتح أعين أطفال الجنوب على خطر الألغام والقنابل العنقودية

«الشرق الأوسط» في جولة ميدانية تواكب التدريب والتوعية

قصة «خبرتني العصفورة» وزّعها أفراد الجيش اللبناني على الأطفال الذين حضروا حملة التوعية حول خطر الألغام والقنابل العنقودية («الشرق الأوسط»)
TT

لم يحُل صغر سنّ طفلة لبنانية دون معرفتها بما يرمز إليه مثلث أحمر لا كتابة عليه أو أي إشارة. ووسط صالة تزدحم بأطفال وعدد من ذويهم أتوا ليستمعوا إلى محاضرة يلقيها أحد أفراد الجيش اللبناني لتوعيتهم إلى خطر الألغام والقنابل العنقودية، وقفت وسألت بصوت ناعم إنما ملؤه الثقة «تعني أننا وسط حقل مليء بالألغام والقنابل العنقودية؟». فردّ عليها الرائد وعيناه قد اتّسعتا دهشةً: «عافاك! وماذا تفعلين في حالة كهذه؟». أجابته: «أقف بلا حراك وأصرخ لطلب النجدة».

كهذه الطفلة كانت سائر إجابات أطفال قريتي يحمر الشقيف وزوطر الغربية في قضاء النبطية الجنوبي، واثقة لا يشوبها شك. لم تكن المعلومات، على أهميتها، جديدة بالنسبة إليهم. هم من يكبرون ويلعبون ويحلمون فيما تحلّق الطائرات الإسرائيلية فوق رؤوسهم الصغيرة، وقد بات هديرها من يومياتهم، من البديهي أن يكونوا على اطّلاع واسع بـ«هداياها» من القنابل العنقودية والألغام المموهة بأشكال عدّة بغية جذبهم.

ورغم «ثقافة» هؤلاء الأطفال، يبقى تذكيرهم بـ«القاعدة الذهبية» ومقوّماتها الثلاثة: لا تقترب، لا تلمس، بلّغ فورا، «ضرورة لتنشيط ذاكرتهم»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط» علي ياغي وهو أحد أبناء قرية زوطر الغربية وقد شارك في عمليات التنظيف التي قامت بها إحدى الشركات المتخصّصة في نزع الألغام.

إنما أكثر ما جذب الأطفال ورفع حماستهم إلى مستويات مذهلة هو الوعد بالحصول على قرطاسية وزّعها أفراد الجيش عليهم. ولعدم توافر كميات تكفي الجميع، اعتمد أسلوب القرعة الذي خطف أنفاس كثيرين. وكم بدت كبيرة وعارمة فرحة من فاز بحقيبة مدرسية! فبعدما تسلّم حسين حقيبته، كان الفخر باديا على وجهه. أما فاطمة التي لا تتجاوز خمسة أعوام وقد تزيّنت ورتّبت شعرها للمناسبة، فلم يكن لديها إلا جواب واحد على كل الأسئلة: «قرطاسية». نسيت اسمها وسنّها وموضوع المناسبة ولزمت هدوءا لافتا، بغية الحصول على نصيبها من «القرطاسية». وكم بدا سرورها كبيرا حين لمست أناملها الكتيّب الصغير الذي يروي قصة «مازن وليلى في المخيم الكشفي» ويعرض تجربتهما مع خطر الألغام! الواقع أن قريتي يحمر الشقيف وزوطر الغربية ليستا إلا نموذجا للبلدات التي نالت نصيبا وافرا من القنابل العنقودية التي أمطرت بها الطائرات الإسرائيلية أرض الجنوب في الأيام الثلاثة الأخيرة من «حرب تموز 2006» (يوليو). لذلك فإن 349 سقطوا وجرحوا بعد انتهاء الحرب، هم 44 قتيلا و305 جرحى. وبين القتلى ثلاثة أطفال وخمسة مراهقين. ومن الجرحى، أي الذين أصيبوا بشظايا أو بترت أطرافهم، 31 طفلا و63 مراهقا. هذا ما أفاد به رئيس قسم الإعلام في «المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام» في الجيش، المقدّم محمد شيخ، لـ«الشرق الأوسط»، لافتا إلى أنه في «الشهر الفائت أصيب الفتَيان عباس (10 سنوات) وحسين عوالي (13 سنة)»، بعدما «ركل أحدهما القنبلة فيما كانا يجمعان الحطب تهيؤا للشتاء». وقال: «لذلك، نركّز في حملات التوعية التي ننظّمها في قرى الجنوب، على ضرورة التزام القاعدة الذهبية. ونحرص على أن يحفظها الطفل».

إنما متى ينجز تنظيف المساحات الملوّثة بهذا الخطر؟ يجيب: «كان من المفترض أن تكون المساحات قد نُظّفت نهاية هذا العام، إنما لعدم وفرة التمويل، أُرجئ الأمر إلى نهاية عام 2010. ففي عام 2007 وإضافة إلى عناصر الجيش، كان هناك 114 فريقا بين شركات متخصّصة ومجتمع أهلي. أما اليوم فانخفض العدد إلى 20 فريقا فيما المساحة الملوّثة لا تزال كبيرة. وتفاديا للاعتماد على التمويل الخارجي، اتخذ قائد الجيش العماد جان قهوجي قرارا بتطويع 15 ضابطا وثلاثين رتيبا ومائتي نقّاب، إضافة إلى العناصر التي تعمل حاليا على التنظيف». وأشار إلى أن «المناطق الملوّثة، تقسم ثلاثة مستويات: الأول، المنازل والطرق. الثاني الأراضي الزراعية، وفيها تعطى الأولوية لمواسم الحصاد بما أن الجنوبيين في غالبيتهم مزارعون ويعتمدون على الأرض للحصول على لقمة عيشهم. الثالث، الأحراج والوديان. وقد انتهينا من المستويين الأول والثاني، ويبقى المستوى الثالث». إلى زوطر الغربية، حضر خليل قاسم تركية (46 عاما) وقد خطّ التعب والحزن على وجهه أخاديد. استند إلى باب المدخل يستمع إلى المحاضرة، ويسترجع مأساة فقدانه ابنه علي (19 عاما) بسبب قنبلة عنقودية انفجرت فيه ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «حملات التوعية هذه مهمّة جدا، فأنا خسرت ابني بسبب هذا الخطر. طوال حرب تموز لم يترك علي المنزل. صمد هنا رغم كل القصف والتدمير. بقي إلى جانب عمّه الذي لا يبصر، لم يرضَ تركه. وفي اليوم الثاني لانتهاء الحرب وكان يوم الثلاثاء 16 أغسطس (آب)، وفيما كان يأكل العنب انفجرت قنبلة عنقودية كانت قد علقت بالدالية. فاستشهد فور وصوله إلى المستشفى لأن إصابته في الرأس كانت بالغة. أما ابن عمّه فنجا لكنه أصيب بشظايا». وفيما كان يروي خليل «مصيبته»، كان الرائد يخبر الأطفال «قصة سامر وتامر». سامر الذي لم يلتزم «القاعدة الذهبية» بعدما ركل القنبلة ففقد ساقه، فيما احترام تامر هذه القاعدة جعله في مأمن من الخطر. وبعدما عرض لهم مجسّمات لقنابل عنقودية وألغام، راح يوضّح الفرق بين كلّ منها، ويوصيهم بعدم رميها بالحجارة ويخبرهم أن أحد الأجسام الصغيرة يحمل 12 كيلوغراما من المتفجرات، وهو ما يدمر دبابة. كما حدّثهم عن القنابل المزوّدة أشرطة بيضاء وهذه تعلّق بالأشجار، وأوصاهم بعدم اللعب في الأحراج خصوصا أن الكثير من القنابل بهت لونها بفعل تعرّضها لأشعة الشمس ما يعني عدم إمكان الانتباه إلى وجودها.