في أسواق الآسيويين بلندن لا أحد يشعر بالحنين إلى الوطن

تغزوها بضائع هندية وباكستانية.. والباعة يخافون من تغييرها إلى أسواق حديثة

جانب من سوق «كوينز» شمال شرقي لندن (تصوير حاتم عويضة)
TT

إن كنت سائحا، أو مقيما في لندن، قد تفكر مرتين قبل أن تقرر التقاط صورة في هذا السوق وإرسالها إلى معارفك وأصدقائك، فقد يعتقدون أنك في دكا أو دلهي أو لاهور، فهنا لن تجد محلات «هارودز» ولا «ماركس آند سبنسر» ولا «غاب» ولا «نكست»، أو ماركات مثل «أرماني» و«شانيل» و«إيف سان لوران»، كما لن تجد مطاعم شهيرة مثل «بيتزا هوت» أو «زيزي»، أو مقهى راقيا مثل «كافيه روج»، والتي تتوزع على طول وعرض أسواق وشوارع لندن الراقية، بل ستجد هنا محلات تحمل أسماء مثل «باكيزة فاشون» و«لاهوري كباب» و«قصابة بلال» و«بوليوود ميوزك»، وما إلى ذلك.

ففي «غرين ستريت ماركت»، الذي يمكن ترجمته إلى «سوق الشارع الأخضر»، والذي يقع شرق العاصمة البريطانية في منطقة نيوهام، التي تعيش فيها جالية آسيوية كبيرة، تنتشر محال تجارية تعرض بضائع لا علاقة لها بالمنتوجات الأوروبية، إذ تغزو السوق محال العطارة التي تبيع أنواع التوابل كافة، ناهيك عن الحبوب والبقوليات والرز البسمتي وبضائع أخرى مستوردة من شبه القارة الهندية، ويعبق السوق بروائح الطبيخ والبهارات بسبب المطاعم الموزعة على جانبيه، والتي تقدم لروادها من الهنود والباكستانيين والبنغلاديشيين الكباب والبرياني ومرق الكاري وأنواعا أخرى من الأكلات الشعبية المطبوخة بالفلفل الأحمر، والتي تدمع عين الناظر إليها حتى دون أن يتذوقها لشدة حرارتها. ناهيك عن محال بيع الحلوى الشعبية، ومحال بيع المصوغات الذهبية والجواهر، وبالتأكيد هناك محال لبيع الأزياء الهندية والباكستانية.

ويقول ساري أحمد (38 عاما)، مدير محل للملابس النسائية، لـ«الشرق الأوسط»: «نبيع الساري (قماش يبلغ طوله ستة أمتار تلفه المرأة حول جسدها)، بعضه مشغول يدويا بالنقوش والزخارف، كما نبيع ملابس العرائس ذات الألوان الزاهية والمطرزة بدقة، ناهيك عن الإيشاربات وملابس أخرى للحفلات، كما نبيع ملابس رجالية مثل الشرواني الذي يتألف من قطعتين». ويضيف: «لا شيء يصنع هنا، كل بضاعتنا تأتي من الهند، فأغلبها مصنوع باليد، الأمر الذي يعني أنها ستكون غالية الثمن إن تمت خياطتها هنا، ولذا نستوردها من الهند، وهذه المنطقة تعتبر المستهلك الأساسي لمثل هذه الأزياء، وخصوصا بدلات الزفاف، وزبائننا ليسوا فقط من الآسيويين، بل من العرب أيضا، وخصوصا من المغرب والجزائر الذين يحبذون شراء الساري».

وتتراوح بدلات الأعراس ذات الألوان الزاهية والمطرزة بخيوط ذهبية من 300 إلى 900 جنيه إسترليني. ويشرح قائلا: «نعمل في هذا السوق منذ 15 عاما، وفي الثمانينات كانت هناك محال قليلة موزعة هنا وهناك وليست بهذا التنوع الذي نلاحظه الآن، وفي نهاية الثمانينات بدأ الإقبال على السوق، وفي التسعينات أصبح كما ترونه الآن».

وفي بريطانيا عندما تقال كلمة «آسيويون» فهذا يعني الهنود والباكستانيين والبنغلاديشيين، وفي حي مثل نيوهام وفورست غيت والفورد المجاورين له قد يظن المرء أن بريطانيا قد تحولت إلى مستعمرة آسيوية، وليس العكس عندما رزحت الهند وباكستان تحت الاحتلال البريطاني منذ القرن التاسع عشر.

وبحسب إحصائيات فإن الآسيويين يشكلون الآن نسبة 4% من عدد سكان بريطانيا. وتقول مصادر تاريخية إن الهنود وصولوا إلى المملكة المتحدة منذ قرون طويلة، غير أن الأعداد الكبرى من الآسيويين وصلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية لسد النقص الحاصل في الأيدي العاملة جراء انشغال البلاد في الحرب.

ويتفرع من سوق «غرين ستريت» سوق آخر يحمل اسم «كوينز ماركت»، وهو مختص ببيع اللحم الحلال والأسماك والخضار والفواكه، وقد يبدو لأول وهلة وكأنه سوق شعبي في مدينة عربية، حيث يملؤه ضجيج الباعة وهم ينادون باللغة الإنجليزية، لكن بلكنة آسيوية، للإعلان عن بضائعهم التي يعرضونها بطريقة تخلو من أي أناقة. كما يعبق برائحة السمك والخضار والفواكه الفاسدة التي جمعت في أكوام هنا وهناك مع القاذورات، ناهيك عن عتمة المكان بسبب السقف الخشبي الذي يغطي السوق.

غير أن الباعة يشعرون بالفخر وهم يتحدثون عن «كوينز ماركت»، ويقول بائع الفواكه نيل ستوكويل (50 سنة)، وهو من الأقلية الإنجليزية التي تعمل في هذا المكان، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا السوق عمره 130 سنة، وعاشت عائلتي هنا منذ 75 سنة مضت، وفيه يعمل الكثير من الآسيويين والأفارقة والروس ومن بلدان أخرى متعددة، ونبيع هنا الفواكه المدارية كالمانجو والأفكادو. إنه سوق جيد ببضاعة رخيصة، وهو مفيد لمن يطبخ الأطباق الهندية، حيث يباع هنا الفلفل الأحمر الحار والباميا والثوم وبإمكان أي أجنبي أن يعثر على ما يريده من الأطعمة».

ويشرح ستوكويل، الذي يعمل في «كوينز ماركت» منذ 30 عاما، تاريخ السوق قائلا: «قبل الحرب العالمية الأولى عندما كان الناس يعانون من البطالة، بدأ عدد منهم ببيع أغراضه الشخصية في هذه المنطقة، لكن مع مرور الزمن تحول المكان إلى سوق متكامل، وقد كان إنجليزيا في بادئ الأمر حتى مجيء الجالية اليهودية قبل الحرب العالمية الأولى، وفي الستينات جاء الجامايكيون، وفي بداية السبعينات الآسيويون، وفي الثمانينات البنغلاديشيون، وفي التسعينات سكان من أوروبا الشرقية». ويضيف أن «هذا السوق يتمتع بتنوع في الأجناس والأديان، وبالإمكان رؤية كل عرق وكل دين يمتزجون معا كعائلة واحدة دون أي تصادم في الثقافات، والكل يعتقد سواء كانوا مسيحيين أم مسلمين بأن لهم الحق في حرية المعتقد، وفي هذا السوق نشعر بالفخر لأننا هنا، وندرك جيدا أن الأشخاص الذين يأتون من بلدان أخرى إلى هنا، كباعة أو زبائن، قد يكونون هاربين من أحكام قضائية أو لأي سبب آخر، لكننا نشعر بالسعادة لأنهم معنا، وهذا صديقي علي من كينيا يعمل هنا منذ 25 عاما وأشعر أننا متساويين».

ويجوب السوق زبائن يحملون أكياسا بلاستيكية رخيصة، ويقول جي، وهو باكستاني يسكن لندن منذ ستة أعوام، إنه لا يشعر بالغربة هناك، موضحا أن «هذا السوق يشبه إلى حد كبير الأسواق في باكستان، فكل شيء نجده هنا سواء الفواكه أو اللحوم أو الأطعمة الباكستانية الأخرى، ولذا لا يتوجب علينا الذهاب إلى المحلات الإنجليزية إلا لشراء مواد محدودة، فهنا بإمكاننا أن نعاين الفاكهة التي نريد ونتفحصها قبل شرائها، أما في المحلات الإنجليزية فإن كل شيء معلب».

لكن الباعة يشعرون بالقلق جراء رغبة البلدية في إجراء تغييرات على السوق ليحاكي الأسواق الحديثة في لندن، ويقول البائع ستوكويل إن «عمدة نيوهام روبن ويلز لا يحب السوق كما هو الآن، ويريد أن يجعله معاصرا، لكنه لا يفهم ما الذي يريده السكان. إن الكثير منهم عاطلون عن العمل لكنهم يعيلون عوائلهم في الوقت ذاته، وعندما يأتون هنا فإننا نبيع 20 إجاصة بجنيه إسترليني واحد فقط، وهذا سعر زهيد جدا»، ويضيف قائلا إن «تحديث السوق سيجعله باهظ الثمن بالنسبة لنا للعمل فيه، الأمر الذي سيحرم الكثير من السكان المحليين من المنتجات الرخيصة».