لبنان يهدي «الفرنكوفونية» عرضا من 40 دقيقة خارجة عن المألوف

سعد الحريري يشهد تحقق إحدى الأمنيات الغالية على قلب والده

مشهدان من حفل افتتاح الدورة (رويترز)
TT

«من هذا المكان بالذات، ومن بيروت عاصمة لبنان، أم الشرائع، حاضنة المهد الأول للحقوق وداعية النهضة الفكرية والثقافية والعربية، أعلن باسم الجمهورية اللبنانية، افتتاح الدورة السادسة للألعاب الفرنكوفونية». بعد دقائق من هذه الكلمات لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، مساء أول من أمس، اشتعلت «المدينة الرياضية» في بيروت، بالألوان والأضواء، وانطلق عرض فني بديع أخرجه الفرنسي الموهوب دانييل شاربانتيه، شارك فيه 1200 فنان من لبنان، مستلهما التنوع الثقافي والحضاري الكبيرين في بلاد الأرز. وعلى مساحة الملعب التي غطيت بالأبيض، وأقيمت على خلفيتها جدران تحولت إلى شاشات. امتدت مساحة العرض لتشمل أيضا جانبا من المدرجات المكتسية بالبياض. بدت المساحة شاسعة ورحبة لتستقبل ما سماه المنظمون عرضا مهدى من لبنان إلى الفرنكوفونية. جال الجمهور الذي بلغ ما يقارب 25 ألف متفرج، من خلال هذه الرحلة البصرية الإبداعية المبتكرة، على مدن لبنانية حفرت بصماتها وتراثها، في الفنون جميعا. ظهرت عينان جاحظتان كبيرتان على الشاشة العملاقة وسط الملعب، تنبيها للمشاهدين أن عليهم التحديق جيدا بما سيأتي. ثم بدأت الرحلة من جبيل عائدة بالحاضرين 3200 سنة إلى الوراء يوم ولدت الأبجدية هناك، تراقصت الأحرف المضاءة بكل لون في الأرجاء، رقص الفنانون بالكتب الضخمة التي حملوها مفتوحة، وكأنما هم يحتضنونها بعشق وفرح. وبسرعة لماحة كان على المتفرج أن ينتقل إلى طرابلس، التي شكلت ذات يوم مركزا لتجمع فينيقي ضم عدة مدن، مرورا بالمرحلة المملوكية التي اكتست خلالها المدينة دورا رياديا فريدا كمركز للمعرفة، ولمكتبة غنية بمئات آلاف المخطوطات. لعبة الضوء الخاطفة نقلتنا إلى حيث ترقص فرقة الدراويش الطرابلسية بملابسها الواسعة ودورانها الصوفي الذي لا ينتهي يتوسطها الفنان عبد الكريم الشعار في تواشيح دينية وضرب على الدف. مزج المخرج بين الافتراضي والواقعي. لعبة الضوء المحاكة بتكنولوجية عالية، تركت المتفرج في حيرة بين الشخصيات الحية من لحم ودم تتحرك أمامه، والمشاهد الآتية من لعبة المؤثرات. وبلغ العرض ذروته حين جاء دور مدينة صور، فإذا بالأمواج تجتاح الملعب لتصل إلى الحسناوات اللواتي أطللن حاملات مجاديف مضاءة ذات وظيفة متعددة. وبسرعة، شكل الفنانون الموجودون على أرض الملعب قاربين كبيرين يسبحان في المياه، فيما المجاديف المنارة ترقص على وقع الموسيقى الهادرة. المدينة الرياضية صارت بحرا، وقوارب صور تمخر عبابه. هكذا ما أن يلتقط الجمهور أنفاسه أمام مشهد لمدينة لبنانية حتى تأتيه أخرى، عنجر الطالعة من زمن الأمويين يوم أسسها الوليد بن عبد الملك، وصيدا بمقاهيها وروحها العثمانية وطرابيشها الحمراء وطربها الأصيل: «اسمك يا صيدا من اسم الصيادين، عطرك يا صيدا من زهر البساتين» يقول المطربون وهم يعزفون على آلاتهم الشرقية، ثم أميرات قصر بيت الدين بملابسهن الفولكلورية الزاهية، وقداديس وادي قاديش الذي استقبل رجال الدين المسيحيين وصولا إلى العاصمة. بيروت مدينة التمازج والتآخي، حيث انتصب المسجد إلى جانب الكنيسة، والصلاة المسيحية تختلط بصوت صلوات الجامع. إنها بيروت التي ستطل ماجدة الرومي، وقد تحولت أرضية الملعب إلى نجوم تلتمع لتصدح «يا بيروت، يا ست الدنيا يا بيروت» ثم يلتحق بها المغني السنغالي الشهير يوسو ندور ليؤديا أغنية أنشدا فيها معا الأخوة البشرية. وبعد أربعين دقيقة نقلت المتفرجين إلى أجواء خارجة عن المألوف، أخليت الساحة ليوسو ندور ليحيي حفلا قصيرا كأحد أهم مغني أفريقيا. لكن المفارقة كانت أن يوسو ندور غني بالإنجليزية في هذا الاحتفال الفرنكوفوني التاريخي الذي جاء ليحمل لواءه.

وكان لافتا الحضور الرسمي الكبير، لأربعة رؤساء لبنانيين جنبا إلى جنب. فإضافة إلى رئيس الجمهورية، رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال فؤاد السنيورة، والرئيس المكلف بتأليف الحكومة الجديدة سعد الحريري. وجدير بالذكر أن لبنان حصل على موافقة المنظمة الفرنكوفونية لتنظيم هذا الحدث، الذي يعقد مرة كل أربع سنوات عام 2003، بجهود جبارة بذلها الرئيس الراحل رفيق الحريري. وتواجد ابنه سعد الحريري، يوم أول من أمس في الافتتاح، كان بديهيا، ليشهد على حدث كان أمنية لوالده واستشهد قبل أن يراها تتحقق بأم العين. والتضامن السياسي اللبناني الشكلي على الأقل في هذه المناسبة، عكس روحا رياضية كانت ضرورية لمواكبة، حضور رسمي فرنسي عالي المستوى، تمثل بحضور رئيس الوزراء فرانسوا فيون وعدد من الوزراء الفرنسيين، إضافة إلى أمير موناكو البير، والأمين العام للمنظمة الفرنكوفونية عبدو ضيوف.

والألعاب الفرنكوفونية التي شهد المغرب دورتها الأولى، عام 1989 تنظم لأول مرة في لبنان، وتشمل مباريات في سبع ألعاب رياضية، إضافة إلى مسابقات فنية وأدبية، في مجالات عدة. وتركز فرنسا من خلال هذه الاحتفاليات على لقاءات شبابية وفنية، وثمة حرص على المزج بين الإبداعي والرياضي، ليس بعيدا عن السياسي.

وكانت الاحتفالية في بيروت قد بدأت عند الساعة الخامسة بعد الظهر ـ مع احترام دقيق ونادر للمواعيد ـ بعزف للفرقتين الموسيقيتين التابعتين لقوى الأمن الداخلي، والجيش اللبناني. حيث عزفت الفرقتان ما يقارب الساعة، وأعلن أنها المرة الأولى التي تلتقي فيها الفرقتان معا في عزف مشترك. وعند الساعة السادسة، دخل مكسيم شعيا، بطل لبنان المغامر حاملا علم الفرنكوفونية، وغرسه وسط الملعب قائلا إنه بنفس الحماس الذي يدفعه لتسلق قمم العالم السبعة واجتياز قطبية المتجمدين يحمل هذا العلم الفرنكوفوني بكل فخر واعتزاز. ثم بدأ استعراض وفود البلدان المشاركة وبلغت 42 من أصل 70 دولة فرنكوفونية، وكان لافتا ضخامة بعض الوفود مثل الوفدين الفرنسي والكندي، فيما اقتصرت بعض الوفود على عدة أشخاص مثل الوفد المصري والسنغالي أو وفد جيبوتي. وحظي وفد موناكو بتحية خاصة من الأمير ألبير حين مر من أمام المنصة، حيث نهض الأمير وقوفا ليطل على مواطنيه من الرياضيين والفنانين المشاركين، ويشد أزرهم. وبانتهاء هذه الاحتفالية بألعاب نارية أخاذة زنرت أسوار المدينة الرياضية بالشلالات والنجوم، وبدء المنافسات الرياضية والثقافية التي تستمر حتى السادس من الشهر المقبل، تنفس المنظمون اللبنانيون الصعداء، خاصة أن الغبطة كانت قد ملأت بعض الفرنسيين الموجودين، الذين كانوا يغادرون الملعب وهم يقولون: «لقد كان الافتتاح على مستوى يليق بالفرنكوفونية ولبنان».