مسرح الصيف والخريف في جنوب كاليفورنيا ينقل إيطاليا إلى أميركا

ترميم تمثال داود والتفاني في الإخلاص الزوجي

مشهد من مسرحية «ترميم دافيد» («الشرق الأوسط»)
TT

تشتهر لوس أنجليس بأنها مدينة الخيال والابتكار وأفلام هوليوود والطرق السريعة المزدحمة بالسيارات، لكن سان دييغو قرب الحدود المكسيكية وآخر نقطة في جنوب كاليفورنيا تختلف عنها رغم قربها (على بعد مائتي كيلومتر)، فهي أول مستوطنة أوروبية في كاليفورنيا تتميز بشواطئها الجميلة وقلة الرطوبة في الصيف والطقس المعتدل ـ ويا للغرابة ـ بالمسرح الصيفي الرائع الذي ينافس أفلام السينما الأميركية في عقر دارها. أهم مسرح في سان دييغو يقع في ضاحية لا هويا (أي الجوهرة بالإسبانية) التي نقلت ميناء مونتي كارلو من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الباسيفيكي.

المسرحية التي قدمت للمرة الأولى في العالم هذا الصيف على خشبة مسرح « لاهويا بلاي هاوس» الذي أسسه ممثلو هوليوود غريغوري بيك ودوروثي ماكوير وميل فيرر المعجبين بمدينة سان دييغو وضواحيها الفاتنة، حكت بطريقة مبتكرة قصة شبه حقيقية عن «ترميم» تمثال الملك داود الذي نحته قبل خمسمائة سنة الفنان الكبير مايكل أنغلو في أوج موجة إبداعه في فلورنسا بوسط إيطاليا وأعطاه صفة «أجمل تمثال لأوسم رجل في العالم». تعرض التمثال المعروض في الساحة الرئيسية عام 1527 أثناء إحدى الثورات في فلورنسا، متى توفي ميكيافيللي مؤلف كتاب «الأمير»، إلى كسر ذراعه اليسرى حين ألقيت عليه من إحدى النوافذ قطعة ثقيلة من المفروشات وتم إعادة تركيب الذراع بعد 16 سنة عقب إضافة دبابيس من النحاس لتثبيتها، وفي عام 1813 وضعوا طبقة من الشمع الوقائي على بعض أصابع التمثال، وتبع ذلك بعد ثلاثين سنة إضافة قطع من الحديد وتنظيف قشرة التمثال بمحلول نصفه من حمض الهيدروكلوريك، ومن ثم طلب الدوق الكبير حاكم فلورنسا آنذاك وضع التمثال المعروض أمام القصر القديم في قالب لحمايته مما أضعف قوة احتمال التمثال فاضطرت السلطات الثقافية إلى إدخاله إلى مبنى أكاديمية الفنون، وفي عام 1991 قام أحد المعتوهين بضرب التمثال بالمطرقة مما أتلف قسما من الرجل اليسرى، وفي عام 2003 تمكنت شينزيا بارنيغوني المختصة الفنية بالترميم من إصلاح وتنظيف التمثال بطريقة حديثة استغرقت ثمانية أشهر ثم خبأوا الأصل في قصر لاسينوريا مقر بلدية فلورنسا بينما تعرض الآن نسخة مطابقة له في الساحة التي يرتادها السياح.

قالت كاتبة المسرحية والممثلة الأولى فيها كلوديا شير، خلال مقابلة خاصة، إنها استوحت فكرة المسرحية عام 2004 حين قرأت مقالا عن ترميم التمثال بمناسبة مرور 500 عام على إنجاز مايكل أنغلو لهذه التحفة، وإن مشاعر المختصة بالترميم هزتها لأنها كانت تعتقد أنها أمضت ثمانية أشهر في صحبة أجمل رجل في العالم، وأضافت «قمت بأبحاث مستفيضة عن فلورنسا ومايكل أنغلو في المكتبة العامة بنيويورك، ثم زرت فلورنسا ثلاث مرات وأجريت مقابلات مع عدة سيدات إيطاليات يعرفن قصة التمثال وتاريخه، وعلاوة على ذلك قابلت شينزيا بارنيغوني المختصة بالترميم التي بهرتني بمعرفتها الدقيقة بالفن والكيمياء والمواد المستعملة لتجديد الآثار الفنية، وبعدئذ دخلت إلى القاعة حيث توجد النسخة الأصلية، وسألت العاملة في التنظيف عن مشاعرها وهي ترى التمثال يوميا بعد تجديده، وأردفت «رمقتني بنظرة تدل على عدم الاكتراث وكأنها تقول في داخلها: اسكتي وكفاك إزعاجا ثم تابعت تنظيف الأرض».

كان عرض المسرحية رائعا ومطابقا للواقع ومستوى التمثيل على أعلى مستوى، وبدت الكاتبة وكأنها تجيد التمثيل مثلما تجيد حبك المسرحية وتنتقي كلمات الحوار باعتناء خاص لتجعل المتفرج يعيش ساعتين وكأنه في إيطاليا يقابل شخصيات حقيقية تعكس خصائص الذاتية الإيطالية والتعابير المحلية والولع بشرب القهوة والمزاح والسخرية والمعرفة العميقة بالتاريخ والفن حتى لدى الطبقات الفقيرة، وشاركها في النجاح آلان مندل الذي قام بدور عالم الآثار الفنية البريطاني ودانييل سيرافيني حارس أكاديمية الفنون الأعرج الذي أفنى حياته بين اللوحات والتماثيل، وبدا أكثر فهما لما تحتويه تلك الدرر من المختصين النظريين، ولكنه لا ينسى إطلاقا ولعه بمغازلة النساء حتى المختصات بالترميم أو السائحات الأجنبيات.

التفاني في الإخلاص: يشتهر مسرح لاهويا بلاي هاوس بأنه كان سباقا في نيل الجوائز العالمية من نيويورك إلى لندن إلى موسكو لعدد من المسرحيات التي عرضت فيه منذ ما يزيد على ستين عاما، وكانت المحاولة الأخيرة منافسة مسرحيات شكسبير في مسرح غلوب العريق بعرض مسرحية «تصرفات إخلاص غير معقولة» للكاتب الأميركي المعاصر تيرانس ماكنالي الحائز على جوائز توني وبوليتزر للدراما. تدور أحداث المسرحية على سقف إحدى أبنية نيويورك خلال ليلة حارة يؤجج فيها القيظ انفعالات سكان البناية حين يلجأون إلى السطح طالبين نسمات الهواء المرطبة، ويستغل الزوجان تلك الفرصة للاحتفال بالذكرى الخامسة للزواج ويشاركهما الجيران الهاربون من شدة الحر، فترى أمامك مجموعة من الشخصيات المختلفة الطباع والأعمار وكأنك تعيش معها فعلا، فبينما تهبط الزوجة لجلب المرطبات من شقتها تحاول عجوز من أصل إيطالي الحوار مع الزوج الشاب ذي الأصل الإيطالي أيضا فيكتشفان عددا من أسرار ومغامرات الجيران العاطفية. يجعلك الديكور المتقن تحس وكأنك تعيش في عصر ما قبل اختراع تكييف الهواء أما حوار المسرحية فيجمع بين المرح والكآبة والتحليل النفسي بأسلوب راق بديع في حين يبلغ مستوى التمثيل والإخراج أعلى الدرجات ويضع المتفرج في جو مدينة ناطحات السحاب وتفكير المهاجرين الطليان وقيم المجتمع الأميركي، وتنتقل الأحداث من الغزل العاطفي إلى العبث مع الموت. جاءت الإثارة (على طريقة هوليوود) من تحليق طائرة الشرطة المروحية فوق سطح البناية، حيث اختبأ أحد المجرمين الفارين من العدالة وراء خزان المياه واستمع إلى أسرار سكانها وهم يسردونها دون أن يلحظه أحد منهم وكأنه كان يمتلك مجهرا للتعرف على خباياهم أوالتليسكوب الذي يرى الأشياء البعيدة مقربة ومجسمة أمامه.

لا تستطيع سان دييغو منافسة لوس أنجليس كعاصمة الترفيه في العالم، لكنها تتفوق عليها في الجمال الطبيعي والنزهات الحالمة بينما لا تجد في لوس أنجليس مناسبة للمشي لأنك تتجول باستمرار راكبا السيارة، ولن تجد آثارا لرعاة البقر الذين كانوا ينتقلون من ولاية أريزونا الصحراوية المجاورة للمقامرة في وسط مدينة سان دييغو بل ستكتشف براعة التمثيل المسرحي. من المعروف أن مسرح لا هويا بلاي هاوس قدم لأول مرة في أميركا المسرحية الناجحة التي اكتسحت مسارح برودواي بنيويورك في الستينات وكان عنوانها «كيف تنجح كرجل أعمال دون أن تجرب ممارسة التجارة فعلا» أما الآن فإن سان دييغو تحمل شعار: كيف تنجح في الدراما والمسرح دون اللجوء إلى الرعب والحيل السينمائية.