«إيقاعات ثقافية».. يتخطى الخلافات الطائفية عبر عمالقة الفن التشكيلي

معرض في لندن يضم لوحات نادرة لفنانين عراقيين يعود بعضها لأكثر من نصف قرن

صلاح الشيخلي، سفير العراق السابق لدى بريطانيا يلقي كلمة في افتتاح المعرض، وبجانبه عمدة منطقة وستمنستر، وعلى مقربة منهما ندى الشبوط التي أشرفت على إقامته
TT

من يحلم بأن يرى فائق حسن، وجواد سليم، وحافظ الدروبي، وشاكر حسن آل سعيد، وخالد الجادر، ورافع الناصري، وإسماعيل الشيخلي، وخالد الرحال، ونزيهة سليم، ونوري الراوي، وإسماعيل فتاح، وغيرهم من عمالقة ورواد الفن التشكيلي العراقي الحديث مجتمعين تحت سقف واحد عبر لوحاتهم الأصيلة التي تسلب لب عشاق ذلك الفن الراقي بمعانيها وألوانها وسرياليتها وتراثها وحداثتها، مجسدة سفرا طويلا من تاريخ العراق المعاصر؟ لكنهم تألقوا كالنجوم في مكان واحد، ليس في بغداد ولا البصرة ولا الموصل ولا أربيل، بل في لندن.

فالمعرض الذي حمل عنوان «إيقاعات ثقافية في الفن العراقي»، والذي افتتح الأسبوع الماضي في صالة «آرت كلوب» وسط العاصمة البريطانية، ونظمته جمعية «الصداقة البريطانية العراقية»، قد يكون الأول من نوعه الذي يقدم هذه التحف الفنية ويتيح لمتذوقي الفن التشكيلي الفرصة للاطلاع على أعمال كبار الفنانين العراقيين. وسارع بعض الحضور، لا سيما من العراقيين، إلى التقاط الكثير من الصور التذكارية إلى جانب تلك اللوحات لأنها بالنسبة لهم قد تكون فرصة لن تتكرر.

وتقول غادة الألوسي، وهي عراقية مقيمة في لندن، لـ«الشرق الأوسط»: لقد «جئت إلى هنا لرؤية نفسي لأن هذه اللوحات مرآتنا، فعندما كانت المعارض تنظم في بغداد كنا نذهب لاكتشاف فنانين جدد، لكن عندما ينظم معرض بكل هذه الأسماء المهمة في لندن، فبالتأكيد كأننا نرى أنفسنا وحضارتنا، أشعر بالفخر لأنني عراقية تقف وسط هذه اللوحات التي يمتد عمر بعضها إلى أكثر من نصف قرن».

وربما أول ما يتبادر إلى ذهن الزائر هو كيف تم جمع هذه الأعمال النادرة في لندن، وما هي مصادرها؟ وتجيب على هذا التساؤل ندى الشبوط، التي أشرفت على المعرض ودأبت لفترة طويلة على جمع اللوحات، قائلة: لقد «جمعتها من مقتنيات فنية خاصة في لندن، فلدي باع طويل في هذا المجال، وأعلم جيدا من يملك مثل هذه اللوحات، فاتصلت بمجموعة منهم وكلهم كانوا متعاونين لأن نأخذ من مقتنياتهم، وهذه الأعمال ليست للبيع ولا تعود لأي مؤسسة».

وتستطرد ندى، وهي أستاذة مساعدة في تاريخ الفن بجامعة نورث تكساس الأميركية، ومديرة معهد الدراسات الثقافات العربية والإسلامية المعاصرة في الجامعة ذاتها، قائلة بأن «المعرض ضم أعمالا قديمة لخالد الجادر، وإسماعيل الشيخلي، وإسماعيل فتاح، وهناك أعمال أحدث من ذلك لحليم الكريم، ونديم الكوفي، وصادق كويش، ونوري الراوي، وهناء مال الله، وغسان غايب، ونزار يحيى، ومديحة عمر، فالمعرض ضم الأسماء الأساسية في الفن العراقي». وتضيف: «لم أرد أن يجسد المعرض فنا معاصرا، بل فكرة معينة، وهي مبدأ الحداثة في الفن العراقي، كما أردت ربطه بالتجارب المعاصرة، فالهدف هو أظهار بناء الهوية الثقافية عن طريق الأعمال الفنية في القرن العشرين».

وتوضح ندى التي درست الهندسة المعمارية أن «جمعية الصداقة العراقية البريطانية دعتني لإقامة المعرض، وأنا منذ عام 2003، وبانتشار سرقة المتاحف في العراق، أنتهز أي فرصة تتناول الحوار عن الفن التشكيلي المعاصر، ومن وجهة نظري فإنه من خلال موضوعه «إيقاعات ثقافية»، أردت أعمالا مختارة تعكس دراسات واعية عن كيفية تكوين وتطور الثقافة العراقية الحديثة في القرن العشرين، فهناك دروس مهمة حول كيف فكر فنانونا لدى تأسيس الدولة العراقية الحديثة في خلق الوعي الوطني، الذي يقول البعض حاليا بأنه غير موجود، ويدعون إلى تقسيم العراق».

وبدأ الرعيل الأول من الفنانين إسهاماته في الفن التشكيلي منذ ثلاثينات القرن الماضي، أي بعد نحو عقد من تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وعكَس أغلب نتاجاتهم الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد آنذاك. ويعتقد بأن أول معرض فني شخصي أقيم في العراق كان للفنان حافظ الدروبي (1914 ـ 1991) عام 1936.

ويقول صلاح الشيخلي، سفير العراق السابق ورئيس جمعية الصداقة البريطانية ـ العراقية، إن «أهداف جمعيتنا هو عكس الجانب الإيجابي من المجتمع العراقي ونتاجاته، بمعنى أن هناك فنا رائعا ومتأصلا في العراق لا يعرف عنه المجتمع البريطاني الكثير، وهذه الجمعية، مشتركة بين العراقيين والبريطانيين، تعتبر قناة من القنوات التي توصل هذه الفكرة إلى المجتمع البريطاني، وبدأنا بنشاطات كثيرة، ومعرض اليوم جزء منها».

وقال الشيخلي، الذي أسس الجمعية عام 2007، لـ«الشرق الأوسط» لقد «كنت سفيرا للعراق في بريطانيا وبانتهاء مهمتي قررت أن أواصل الدعاية الفنية للبلد.. وللأسف فإن السفارة العراقية ليست لديها نشاطات فنية تذكر في هذا المجال، وبالتالي أسسنا هذه الجمعية لكي نوصل رسالة العراقيين إلى المجتمع البريطاني، فالجمعية تعتبر سفارة غير رسمية للعراق». ويشرح الشيخلي أسباب اختيار الجمعية الفن، دون غيره، لإيصال الرسالة، أن «الفن لغة عالمية لا تحتاج لاستخدام الكلمات والتعبير، كما لا يحتمل الأمر رأيا آخر، فالموسيقى والأزياء والرسومات لا يمكن النقاش فيها، فهذه لغة دولية نستطيع أن ننقلها إلى المواطن البريطاني أو العراقي المقيم هنا من غير أن نحدث مشكلة في الرأي أو الاتجاه».

ويستطرد قائلا: «معرض اليوم يضم رسوما يعود تاريخها إلى 40 أو 50 سنة وهذا يعني أن للعراق تراثا فنيا، وأنه مهما شاهد المواطن البريطاني على شاشات التلفزيون من دماء وتفجيرات فهذا لا يعكس الشخصية العراقية بل هو أمر طارئ، فهناك قاعدة من الفن والتطور والأدب والموسيقى والتراث والآثار العراقية».

ويختتم الشيخلي قائلا: «هنا نتخطى السياسية والخلافات العقائدية والفكرية والطائفية ونذهب إلى عملية يكاد يجمع عليها المجتمع العراقي».

وبالإضافة إلى حضور السفارة العراقية ممثلة بمستشارها علي البياتي الذي أثنى على المعرض وأبدى دعم السفارة للنشاطات التي يقيمها العراقيون في بريطانيا، فقد غص المعرض أيضا في يومه الأول بالعشرات من الشخصيات البريطانية المهتمة بالشأن العراقي سواء في مجال الفن أو التاريخ أو السياسية، وقال عمدة منطقة وستمنستر، وسط لندن، دانكن سانديز، وهو أحد ضيوف الشرف «أعرف القليل عن الفن العراقي، ومعرض الليلة يعتبر مدخلا بالنسبة لي لهذا الفن»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «العراق كان موضوعا مثيرا للجدل خلال الأعوام الست أو السبع الماضية، وهذه فرصة لتعريف البريطانيين بموضوع آخر (غير الحرب) حول العراق، ألا وهو الفن».

وقال العمدة سانديز: «هنا نستعيد الروابط التاريخية بين العراق وبريطانيا، وأعتقد أن القلائل هنا يعرفون دور بريطانيا في تأسيس العراق في العشرينات، ويلمون بالتاريخ الحديث فقط»، مضيفا أن «الفن أمر رائع حقا لجمع الناس معا واللوحات المعلقة على الجدران هنا تمثل فنا عظيما ومثيرا حقا، ويختلف عن الذي أعرفه في بريطانيا، وهذا أمر مهم ضمن تعزيز التفاهم بين الثقافات في العالم».