ملاحقة لوحة دافنشي المفقودة بأحدث التقنيات

لوحة «معركة أنغياري» ظلت مغطاة خمسة قرون

مارويتسيو سيراسيني يعمل على ترميم لوحة «معركة مارسيانو» الجدارية (نيويورك تايمز)
TT

إذا كنت تعتقد، مثلما يعتقد مارويتسيو سيراسيني، أن أعظم لوحة رسمها ليوناردو دافنشي مخبأة داخل جدار في قاعة مدينة فلورنسا، فهناك وسيلتان ضروريتان للعثور عليها. وكالعادة، توقعهما ليوناردو.

أولا، يجب التركيز على المبتكرات العلمية. بعد التوصل إلى ما بدا كأنه مفتاح إلى لوحة ليوناردو تركها فنان آخر من القرن السادس عشر، قاد الدكتور سيراسيني فريقا دوليا من العلماء لفحص كل مليمتر من الجدار والمساحة المحيطة بأشعة الليزر والرادار وإضاءة فوق البنفسجية وكاميرات ذات أشعة تحت الحمراء. وبمجرد أن تعرفوا على مكان الخبيئة المرجح، طوروا أدوات لرصد اللوحة بإطلاق نيوترونات في الجدار.

وقال الدكتور سيراسيني، وهو ينظر إلى الجدار حيث يرجو أن تكون اللوحة موجودة ويتم استخراجها سليمة: «كان ليوناردو سيحب مشاهدة كيفية استخدام العلم من أجل البحث عن أشهر أعماله الكبرى. ويمكنني أن أتخيل كم سيكون ذاهلا بكل تلك المعدات المتقدمة تقنيا التي نستخدمها».

وكان سيراسيني يقف في قاعة التشريفات الكبرى في بالازو فيكيو، قاعة 500، التي كانت مركزا للسياسة في عصر النهضة عندما كُلف كل من ليوناردو ومايكل أنجلو بتزيينها بجداريات تعبّر عن انتصارات فلورنسا العسكرية. وفي أحد أيام شهر يوليو (تموز) عام 2009، ظلت مركزا سياسيا، كما ثبت من الظهور المفاجئ لعمدة فلورنسا الجديد ماتيو رنزي، الذي خرج مسرعا من مكتبه إلى سيارة كانت في انتظاره.

وتوقفت المحاضرة العلمية عندما تحرك سيراسيني سريعا لمقاطعة موكب العمدة. فقد كان متحمسا للاستراتيجية الثانية الضرورية من أجل استعادة لوحة ليوناردو في فلورنسا: العثور على الراعي المناسب.

كانت تلك الخطوة جيدة في موطن عائلة ميديشي وبيروقراطيين مثل مكيافيللي، صديق ليوناردو الذي وقع على عقد تكليف برسم جدارية المعركة. وقد أمضى الدكتور سيراسيني، وهو أستاذ في الهندسة في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، أعواما يعاني من مأزق البيروقراطية في انتظار تجربة تقنية أشعة النيوترون، ولكنه رأى في العمدة الجديد أفضل أمل له ليعثر على عمل ليوناردو.

وقد بدأ السعي من أجل العثور على العمل الفني منذ ما يزيد على ثلاثة عقود بمفتاح لغز يتناسب مع إحدى روايات دان براون. ففي عام 1975، بعد دراسة الهندسة في الولايات المتحدة، عاد سيراسيني إلى موطنه في فلورنسا وبحث في قاعة 500 مع أحد الدارسين لأعمال ليوناردو، وهو كارلو بيدريتي.

كانا يبحثان عن «معركة أنغياري»، كبرى لوحات ليوناردو على الإطلاق (ويبلغ حجمها ثلاثة أضعاف عرض لوحة «العشاء الأخير»). وعلى الرغم من أنها لم تكتمل مطلقا، حيث توقف ليوناردو عن العمل فيها في عام 1506، إلا أنه ترك مشهدا محوريا للجنود المتقاتلة والخيول مما يعد دراسة غير مسبوقة للتشريح والحركة. وعلى مدار عقود، ذهب فنانون أمثال رافاييل إلى قاعة 500 لرؤيتها وتقليد نسخهم منها.

ثم اختفت اللوحة. وفي أثناء إعادة تشكيل القاعة عام 1563، غطى المعماري والرسام غيورغيو فاساري الحوائط بجداريات للانتصارات العسكرية التي حققتها عائلة ميديشي، والتي عادت إلى السلطة. وطوى النسيان لوحة ليوناردو، إلى حد كبير.

ولكن في عام 1975، عندما درس سيراسيني أحد مشاهد معركة فاساري، لاحظ وجود علم صغير يحمل كلمتين هما «سيركا تروفا»: ومعناهما، من يبحث يجب أن يجد. فهل كانت تلك هي إشارة فاساري إلى وجود شيء ما مخبأ تحت جداريته؟

لم تقدم تكنولوجيا السبعينات إجابة شافية على ذلك السؤال. وعمل سيراسيني على تحقيق ذاته من خلال الدراسات العلمية لأعمال فنية أخرى، وعلى تأسيس مركز العلوم المتخصصة للفن والعمارة والآثار في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. وفي عام 2000، عاد إلى القاعة ومعه أساليب تكنولوجية حديثة وراعٍ مالي جديد هو لويل غينيس، رجل الأعمال الخيرية البريطاني. وبعد أن التقط صورا بالأشعة تحت الحمراء وفحص القاعة بالليزر، اكتشف فريق سيراسيني أين كانت الأبواب والنوافذ قبل أن يعيد فاساري تشكيل القاعة.

وكان المخطط المعاد رسمه، ومعه وثائق ترجع إلى القرن السادس عشر، كافيا لتحديد المكان الذي رسمه ليوناردو. وقدم أيضا تفسيرا ممكنا لفشل مايكل أنجلو في فعل أي شيء أكثر من مجرد رسم مبدأي لجداريته: فلا بد أنه استاء لأن ليوناردو تم تكليفه بالرسم على مكان في الجدار يحصل على إضاءة أفضل من النافذة.

يقول سيراسيني: «تلك القاعة كبيرة، ولكنها لم تكن كبيرة بما يكفي لكل من مايكل أنجلو وليوناردو».

وأظهرت الدراسات الجديدة أن المكان الذي رسمه ليوناردو يقع مباشرة عند مفتاح «سيركا تروفا». وكان الخبر الأفضل، الذي عرف عن طريق المسح بالرادار، هو أن فاساري لم يلصق جداريته فوق لوحة ليوناردو مباشرة. بل أقام جدارا جديدا من الطوب ليحمل جداريته، وتكبد مشقة كبيرة ليترك فارغا صغيرا من الهواء خلف جزء من الطوب، ذلك الجزء الواقع خلف «سيركا تروفا».

ولكن كيف يمكن لأي شخص اليوم أن يعرف ما يكمن خلف الجدارية والطوب؟ هل يمكن لأي شخص أن ينظر إلى ما وراء ست بوصات داخل الجدار دون أن يُلحِق ضررا بالجدارية التاريخية المرسومة على السطح؟

كان الدكتور سيراسيني في وضع حرج حتى عام 2005، عندما طلب المساعدة في مؤتمر علمي وتلقى اقتراحا بتوجيه شحنة من النيوترونات لتمر عبر الجدارية دون الإضرار بها. وبمساعدة من علماء الفيزياء في الولايات المتحدة، ووكالة الطاقة النووية في إيطاليا وجامعات هولندية وروسية، طور سيراسيني معدات من أجل تعرُّف المواد الكيماوية التي استخدمها ليوناردو.

ويمكن لإحدى تلك الأدوات أن يرصد النيوترونات التي ترتد بعد الاصطدام بذرات الهيدروجين، والتي توجد بكثرة في المواد العضوية (مثل زيت بذر الكتان والراتنغ) التي كان ليوناردو يستخدمها. وبدلا من استخدام مواد الطلاء التي تعتمد على الماء في الجداريات التقليدية بألوان صمغية رطبة كما في جدارية فاساري، غطى ليوناردو الجدار بطبقة عازلة مضادة للماء واستخدم ألوانا تعتمد على الزيت.

ويمكن لجهاز آخر أن يرصد أشعة غاما المميزة التي تنتج عن تصادم النيوترونات مع ذرات المواد الكيميائية المختلفة. والهدف من ذلك هو تحديد مكان الكبريت في الطبقة الأساسية من جدارية ليوناردو، والقصدير في الطبقة البيضاء، والمواد الكيماوية الموجودة في الصبغات مثل الزئبق في اللون القرمزي والنحاس في اللون الأزرق الموجود في مادة اللازورد.

وكان تطوير تلك الوسائل التكنولوجية أمرا صعبا، ولكنه ليس بصعوبة الحصول على إذن باستخدامها. وظل سيراسيني يسعى حتى وصل إلى طرق سياسية وبيروقراطية مسدودة. لذا عندما رأى العمدة الجديد يندفع عبر القاعة 500 بعد ظهيرة أحد أيام شهر يوليو (تموز)، هُرع إليه ليلتمس إذنا شخصيا لدى رينزي، الذي كان مشجعا للمشروع قبل انتخابه.

صمت العمدة قليلا واستمع إليه ثم وعده بمساعدة جهوده الفنية التي تتطرق إليها في أول مجموعة من وعوده الانتخابية.

وقال رينزي: «حلمي أن أرى ذلك الاكتشاف قريبا جدا». و«قريبا» يمكن أن تكون كلمة نسبية في الأعمال البيروقراطية الإيطالية، ولكن بدأ العمدة الجديد بالفعل في إعادة إطلاق عملية الموافقة واجتمع مع أحد رعاة المشروع الحاليين، وهي الجمعية الجغرافية الوطنية. وفي الأسبوع الماضي، قال العمدة إنه يتوقع أن يستكمل الأمر بعد فترة وجيزة.

وقال رينزي يوم الخميس: «نحن نرغب بشدة في منح البروفسور سيراسيني التصريح. وتبقى مسألة واحدة تتعلق بالتوقيت، ومن سيفعل ماذا. وفي غضون أسبوع أو اثنين يجب أن يحصل المشروع على إذن بالاستكمال».

ويقول سيراسيني إنه بمجرد أن يحصل على التصريح، يأمل في أن يكمل البحث في غضون عام. وإذا ثبت أن جدارية «معركة أنغياري» هنا، سيكون من المجدي للسلطات في فلورنسا أن تحضر الخبراء لإزالة الجدارية الخارجية التي رسمها فاساري، واستخراج لوحة ليوناردو ثم وضعها مكان جدارية فاساري.

وبالطبع لا يعرف أحد كيف ستبدو اللوحة اليوم. ولكن يقول سيراسيني، الذي أجرى بحثا شاملا عن الأضرار التي لحقت بالعديد من اللوحات التي ترجع إلى عصر النهضة، إنه متفائل بشأن «معركة أنغياري».

وقال: «هناك ميزة أنها كانت مغطاة لمدة خمسة قرون. وهي محمية من العوامل البيئية والتخريب وأعمال الترميم السيئة. ولا أتوقع أن يكون بها نسبة كبيرة من التحلل».

وإذا كان على حق، فقد يكون فاساري قد أسدى جميلا لليوناردو بتغطية اللوحة، والاهتمام بترك علم صغير يشير إلى وجود لغز خلف الجدارية.

* خدمة «نيويورك تايمز»