لؤلؤ البحرين الأسطوري يشع في باريس

معرض يتتبع أسرار المحار ويروي أشجان النواخذة الغواصين

طافت اللؤلؤة بكل الحضارات وظلت تشير إلى الجمال والفرادة والنفوذ والثراء (رويترز)
TT

هل كان الغواصون الشجعان الذين غاصوا في مياه الخليج، قبل أكثر من مائة سنة، بحثاً عن اللؤلؤ، يتصوّرون أن صورهم وأناشيدهم ومراسلات تجارتهم ونماذج من أبهى لقاهم ستأخذ مكانها تحت أنوار باريس «عاصمة النور» ذات يوم؟ الحقيقة أنه لا بد لزائر معرض «لؤلؤ البحرين الأسطوري» الذي فتح أبوابه مطلع هذا الأسبوع في معهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية باريس، أن يستحضر وجوه أولئك الرجال ويتخيل معاناتهم وهو يتأمل تلك الأصداف القديمة واللآلئ الملونة، ويقرأ أسماءها، ويستمع إلى أغاني الصيادين وتصفيقهم الإيقاعي، وكأن القاعة الصغيرة المعتمة تحولت بقدرة قادر إلى «صندوق فرجة» أو آلة عجيبة تعود بالزمن إلى وراء.

كان هناك حشد رسمي كبير في المدخل. وزراء وسفراء ودبلوماسيون وسيارات سوداء مضببة، بينهم نتعرف على وجه راعية هذا المعرض، وزيرة الثقافة والإعلام في البحرين الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، لكن الرسميين ما كانوا أبطال المناسبة، بل سحب البساط الأحمر من تحت أرجلهم غوّاصون شبه عراة، سمر الأجسام، نحيلو الأذرع والسيقان، عاشوا عيشة شظف لكي يتباهى بلدهم بما حصدت أيديهم من صيد ثمين ونوادر.

تمدّدت تحت الخزائن الزجاجية قلائد وأساور قديمة تخلب النظر، مشكوكة باللؤلؤ ومطعّمة بالحجر الكريم. لكن ما هو أثمن منها كان الوثائق التي رافقتها ورَوَت تاريخ واحدة من أقدم المهن في الخليج العربي قبل أن يتفجّر النفط، فيهجر الغوّاصون مهنتهم إلى مهن أكثر انتظاماً ومداخيل. فها أمام نحن إعلان صادر عن حكومة البحرين عام 1941، مطبوع على وريقة صفراء، يقول: «رفقاً ببحّارة الغوص قرّرت الحكومة تخفيض سعر دفاتر الغوص من ست آنات إلى ثلاث، كما أنها أصدرت رخصة خاصة لحساب ربع المدة بسعر قدره آنة واحدة ولموسم واحد فقط». وإلى جانب الإعلان عرض واحد من دفاتر الغوص الصغيرة ذات اللون الوردي الحائل، والتي كانت بمثابة الرخصة التي تجيز لحاملها ممارسة المهنة، وعلى الغلاف يكتب اسم المغيص في «أُم السيب» واسم «نوخذا» السفينة ونمرة تسجيلها.

هذا، ولم تكن حياة الغوّاصين سهلة على متن سفن الغوص، وما كانوا يتغذّون جيدا بل تقتصر وجبتا الفطور والغداء على القهوة والتمر، بينما يتاح لهم شيء من الأرز والسمك في العشاء. وبفضل جهود هؤلاء الجنود المجهولين اشتهرت البحرين بأنها صاحبة أفضل أمهاد اللؤلؤ في العالم. وطوال القرون الماضية، من أيام حضارة دلمون، شكلت هذه الكرات البلورية الحليبية الصغيرة سر البحرين، واستقطبت الاهتمام لكونها نفائس ثمينة تولد من كائن حي في أعماق البحر. وبقول لنا دليل المعرض إن اللؤلؤة تختلف عن حجر الألماس وغيره من الأحجار الكريمة لأنها ذات جمال طبيعي، بديعة كما خُلقت، لا تحتاج إلى الصقل ولا التلميع بل تثقب، فحسب، لتُشكّ في الخيوط وتزين أجياد الحسان.

نتعرف في المعرض، أيضا، على قاموس غواصي اللؤلؤ. ونرى «الفطام» الذي هو مشبك يوضع على المنخرين مثل الكمّامة، و«المغلف» الذي يشبه السكين التي تستعمل لفتح الأصداف، و«الخبط» التي هي أغطية جلدية للأصابع أثناء جمع المَحار، و«الديين» وهو الكيس الذي يعلقه الغوّاص في رقبته ويضع فيه حصيلته من الأصداف. كما نتعرف على أنواع مختلفة من اللؤلؤ: «القلوة» و«السجيني» و«البدلة»، منها ما هو مستدير أو مستطيل، ما هو أبيض وما هو وردي، وهناك اللؤلؤة السوداء التي تسمى «المريضة» ولا تدخل في الصناعة رغم ندرتها.

لقد طافت اللؤلؤة بكل الحضارات وظلت تشير إلى الجمال والفرادة والنفوذ والثراء. وأتت على ذكرها النصوص الدينية وتغنّى بها الشعراء. وعلى الرغم من شهرته العالمية فقد واجه لؤلؤ البحرين مصيرا غير متوقع في الثلاثينات من القرن الماضي، وتراجعت تجارته بعد ظهور اللؤلؤ الياباني المزروع والمتوافر بكثرة وبأسعار زهيدة. إنه زمن التقليد والسرعة في الإنتاج والبحث عن الأرخص. لكن الموجة لم تجرف الذّواقة، ودخلت اللآلئ الأصلية المتألقة إلى المتاحف، مثل الآثار القديمة والأعمال الفنية الممهورة بتوقيع كبار المبدعين.

وهكذا تم جمع هذه المعروضات الفريدة بتعاون بين متحف البحرين الوطني وبين «مجوهرات مطر». ولا أدري من هو مطر. لكن الدليل يقول لنا إن هذه القطع ليست ذات قيمة تاريخية وثقافية فحسب بل إنها لا تقدّر بثمن ولا يمكن تقليدها، لا في اليابان ولا على أيدي سحرة تايوان. وبالتالي، فإن كل لؤلؤة هنا هي جوهرة... فيا سعد الباريسيين بما يرَون.