مصارعة الثيران.. جانب من هوية إسبانيا يواجه اليوم مناهضة شعبية متنامية

أبطالها نجوم شعبيون دخلوا عالم الثراء والأضواء

مشهد مألوف لرياضة مصارعة الثيران («الشرق الأوسط»)
TT

كانت الصورة النمطية لإسبانيا التي شاعت حول العالم خلال عقد السبعينات من القرن الماضي تتمثل في مغنية فلامنكو أو مصارع ثيران، أو ممثلة ومصارع ثيران معا. بيد أن الصورة تغيّرت قليلا الآن وصارت أكثر حداثة. فهي راهنا مزيج بين مصارع ثيران وعارضة أزياء أو مذيعة تلفزيونية. الحقيقة أن أول من زاوج بين العالََمين ـ عالم مصارعة الثيران وعالم الفن ـ لويس ميغيل دومينغين، فقد ارتبط هذا «الماتادور» الشهير بعلاقات مع نجمات سينما عالميات مثل ديبورا كير ولورين باكال أو رومي شنايدر. وكان دومينغين أحد مصارعي الثيران الذين أسهموا في خلق صورة «الذكورية الإسبانية المفرطة» التي شاعت في العالم خلال السنوات الخمسين الماضية. وكانت أبرز علاقات دومينغين النسائية تلك العلاقة العاطفية الحارة التي ربطته بالممثلة الأميركية العالمية آفا غاردنر، وملأت صفحات الجرائد والمجلات. أما صداقاته الرجالية العادية فكانت أشهرها صداقاته الوثيقة مع الرسامين الإسبانيين العالميين الشهيرين سالفادور دالي وبابلو بيكاسو والروائي الأميركي الكبير إرنست همنغواي والممثل والمخرج العالمي أورسون ويلز، الذي توجد مقبرته في المنزل الريفي لعائلة مصارع الثيران الشهير بجنوب إسبانيا.

مصارعو الثيران الجدد، هم ورثة ذلك «الماتادور» ـ الأسطورة. ولقد غدوا، بالفعل، شخصيّات دائمة الحضور في المجلات والإعلانات التجارية كما هم في حلبات مصارعة الثيران. بل يجني هؤلاء من الإعلانات أكثر مما يجنونه من مهنتهم، إذ يتراوح أجر «الماتادور» عن المنازلة الواحدة ما بين 210,000 إلى 450,000 يورو كل بحسب شهرته. ويحصل خوسيه توماس، الذي يعد اليوم أغنى مصارع ثيران في البلاد، والذي يلقب باسم «المصارع الجمهوري» نسبة إلى أيديولوجيته الجمهورية، فقد طلب هذا الماتادور 420,000 يورو لصرع ثورين في حلبة العاصمة مدريد، التي تعد الأشهر والأهم في عالم هذه الرياضة، وحيث لا بد لأي مصارع تجربة قدراته فوق أرضها إذا ما أراد أن يصبح «ماتادورا» حقيقيا. ولكن، مدير حلبة مدريد أبى، أخيرا، أن يدفع لخوسيه توماس أجره الكبير، مما جعل توماس يختار مصارعة خمسة ثيران بمفرده على حلبة برشلونة، التي تعد إحدى المدن الإسبانية التي تناهض هذه الرياضة. ومع أن أحدا لم يعرف مقدار المبلغ الذي تلقاه خوسيه، لكن ما عرف أن أحد عشاق هذه الرياضة دفع 7,000 يورو لمجرد الحصول على مقعد لمشاهدة المنازلة. خلف خوسيه توماس، هناك كوكبة من «الماتادورات» اللامعين الذين يجنون مداخيل ضخمة، ومن هؤلاء إنريكي بونسه وإل خوليو وسباستيان كاستيلا أو «إل سيد» الذي يجني ما بين 210.000 و300,000 يورو. وكاستيلا هذا مصارع فرنسي ويحظى بشهرة كبيرة في بلاده، ولقد شاهده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عدد من الحلبات لأن مصارعة الثيران تقليد مهم في جنوب فرنسا أيضا. أما أسوأ أجر يمكن أن يحصل عليه مصارع متمكن فيكون حوالي 36.000 يورو، مع العلم أن على «الماتادور» أن يدفع للحاشية المرافقة له والمساعدة في نزالاته، وأفرادها يعرفون بمسمى «الكوادرييا».. أي «البانديريييروس» أو «البيكادورات» (بيكادوريس)، وتتراوح أجور هؤلاء بين 1,380 و680 يورو كلٌ بحسب مكانه و«الماتادور» الذي يعمل معه. تقدر حجم الأموال المتصلة بمصارعة الثيران حوالي 2,5 مليار يورو سنويا في إسبانيا (4 مليارات يورو حسب الإحصاءات غير الرسمية)، بيد أن هذه الرياضة تتركز في أيدٍ قليلة. ويشير إدواردو ميهورا، وهو أحد أهم رجال الأعمال في إسبانيا، إلى وجود 1,268 مزرعة تربي الثيران المخصّصة للمصارعة، لكن نصفها فقط مربح. ومن ناحية ثانية، توجد في إسبانيا 378 حلبة ثابتة و3.000 حلبة متنقلة لمصارعة الثيران. وتنظم المدن الإسبانية خلال العام الواحد حوالي 17,000 منازلة بالثيران نحو 2000 منها تعد منازلات مهمة. في حين أن الكثير من الباقي مخصص للمصارعين الشباب. منذ نهاية القرن الماضي أخذ ينظر إلى «الماتادور» كرمز للبطولة في المجتمع الإسباني، وبات مصارعو الثيران يحظون بالمال والثراء والنجومية تماما مثل لاعبي كرة القدم وكرة المضرب والمغنين والممثلين، وصاروا يعتبرون في عداد الأوساط الاجتماعية الراقية. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك صورة كايتانو ريفيرا أوردونييز، الذي يمثل اليوم عالميا منتجات دار أرماني للأزياء والإكسسوارات والعطور. فقد كان والده «الماتادور» الكبير باكيري قد قتله ثور خلال منازلة في سن الخامسة والعشرين، وكان أفضل تمثيل لهذه الصورة النموذجية منذ 40 سنة، وتزوّج من ابنة مصارع آخر شهير وكانت زوجته الثانية مغنية الفلامنكو الشهيرة إيزابيل بانتويا.

ولقد دخل اثنان من أبناء باكيري إلى مجال مصارعة الثيران إلى جانب أغلفة المجلات كنماذج لـ«الناس الجميلين» لعدد من الأسباب لا يتعلق أغلبها بمصارعة الثيران. ومع أن كايتانو هو الابن الأصغر فإنه الأكثر شهرة في مجال الإعلانات وخطيب ملكة جمال إسبانيا. أما الابن الآخر فرانشيسكو، وهو مثل أخيه مصارع ثيران وموديل إعلانات، فقد كان متزوجا بواحدة من بنات إحدى كبريات عائلات الطبقة الأرستقراطية في إسبانيا. وأما والدتهما، زهي ابنة «ماتادور» وزوجة «ماتادور»، فكانت تعرف بأنها «ملكة صحف التابلويد الشعبية»، لأنها حتى وفاتها اعتادت بيع كل تفاصيل حياتها للعديد من صحافة التابلويد مقابل مبالغ مالية كبيرة. بيد أن ابنيها حاولا اختيار عمل أفضل لتجنب الانسياق وراء أشكال معينة من الإعلام الذي دمر حياة والدتهما. الواقع أن علاقة العمل بين كايتانو ريفيرا أوردونييز وجورجيو أرماني التي بدأت عام 2006 كانت صفقة مهمة بالنسبة لـ«الماتادور» لأنها شكّلت بداية دخول كايتانو إلى عالم الأزياء بقوة.. متجنبا الزلات والأخطاء التقديرية والإعلامية. بيد أن الاتفاق كان يفترض أيضا دخول أرماني عالم مصارعة الثيران هو الآخر، إذ قرر المصمم الإيطالي العالمي أن يجعل مصارع الثيران وجها لتصاميم أرماني في عرضه الكبير في ميلانو عام 2007. وفي نوع من التغيير عرض المصمم العالمي مجموعة مبتكرة من الملابس المناسبة لمصارعي الثيران في مهرجان هذه الرياضة الكبير بحلبة مدينة رُندة قرب مدينة مالقة. وقد كان تقديم تلك البدلة حدثا عالميا ذلك العام.

في البدء، كان المخطط أن تقتصر الحملة الدعائية على أميركا الجنوبية وأوروبا بيد أن مشاهدة أرماني للصور جعله يتخذ قراره بتوسيع نطاق الحملة ليشمل كل دول العالم، من فرط إعجابه بالتجربة والفكرة. ولعله لهذا السبب وافق جورجيو أرماني، النباتي لعقود، وافق على الذهاب إلى حلبة المصارعة لمشاهدة أداء «الماتادور». ولكن عمل كايتانو لم يقتصر على عالم الأزياء فحسب، بل امتد إلى السينما. فقد اختير لتدريب نجم هوليوود أدريان برودي، بطل فيلم «مانوليتي» على بعض أسرار فن مصارعة الثيران، والفيلم يروي سيرة «الماتادور» الأسطوري مانوليتي الذي توفي في الحلبة عام 1947 وهو يقاتل ثور «ميورا» يزن 500 كيلوغرام. وإبان تصوير الفيلم نشرت المجلات تحقيقا عن احتمال ولادة قصة حب بين «الماتادور» والممثلة الإسبانية اللامعة بينيلوبي كروز التي مثلت في الفيلم، إلا أن الجانبين أنكرا وجود هذه العلاقة.

كايتانو ريفيرا أوردونييز، بالمناسبة، ليس الوحيد الذي يجمع بين هذا المزيج في حياته بين مصارعة الثيران والموضة. فمصارعو الثيران الآخرون إما متزوجون أو يخطبون عارضات أزياء أو مصممات أو ممثلات أو نجمات برامج تلفزيونية. فعلى سبيل المثال كارولينا أدريانا هيريرا، ابنة المصممة كارولينا هيريرا متزوجة من مصارع الثيران إل ليتري. وهناك ثلاثة مصارعين آخرين متزوجون من ملكات جمال إسبانيا وأحد نظرائهم فينيتو دي كوردوبا زوج مقدمة برامج تلفزيونية شهيرة. ولكن، في المقابل، فإن ثمة مصارعين يأخذون الجانب الفلسفي من هذا الفن ويحاولون العيش بهذه الطريقة. ودائما ما يشرح أنتونيو كورباتشو، مدير أعمال خوسيه توماس، بأن هناك نوعا من التوازي الفلسفي بين محارب «الساموراي» و«الماتادور». ويعتقد أن «فن الاستراتيجية، الذي هو طريق المحارب، دستور يعلّم الجانب الإيجابي من الحقيقة وهو عدم إظهار الخوف من أي شيء ولا حتى الموت وهو الأمر نفسه في كلا البطلين».

ختاما، لا بد من القول، إنه على الرغم من رواج مصارعة الثيران والمكانة التي يتمتع بها نجومها وأبطالها، فإن هذه الرياضة لا تتمتع بتأييد جماعي حولها في إسبانيا، بل على العكس، ازدادت الحركة المناهضة لها قوة وتأثيرا خلال السنوات الأخيرة، حتى إنها صارت حزبا سياسيا تحت اسم «بارتيدو أنتي تاورينو كونترا إيل مالتراتو أنيمال» (الحزب المناهض لمصارعة الثيران وإساءة معاملة الحيوانات) وقد حصل على 45,000 صوت خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وقد اعتاد مناصرو هذا الحزب التظاهر حول الحلبات صائحين بهتاف «قاتل» للمشاهدين والمصارعين على السواء. وقد أصبحت مدينة برشلونة، وإقليم كتالونيا ـ وعاصمته برشلونة ـ المركز الأبرز لهذه الحركة الاحتجاجية وربما لأنها الطريقة الأفضل للتعبير عن رفض التقاليد الإسبانية.. وربما الهوية الإسبانية أيضا.

* صحافية من «الموندو» الإسبانية متعاونة مع «الشرق الأوسط»