الرقص الشرقي للرجال أيضا.. في بيروت

ألكسندر بوليكفتش يحتج على مسرح «دوار الشمس» ثلاث ليالٍ متتالية

ألكسندر بوليكفتش يعرض من بيروت (تصوير: رنده ميرزا)
TT

يعترض ألكسندر بوليكفتش على عنصرية الرقص الشرقي، وأن يكون حكرا على النساء. فما مدعاة التمييز، وما المانع في أن يكون الرقص الشرقي حقا للجميع؟ لذلك رقص بوليكفتش لثلاث ليال متواليات على «مسرح دوار الشمس» في بيروت، طارحا أسئلته، حاملا استهجانه، رافضا بقاء هذا الرقص قرين «العروض الرخيصة والترفيه الذكوري»، كما جاء في الكلمة التي رافقت ملصق العرض.

وتحت عنوان «محاولة أولى» رقص بوليكفتش بتقنية تفوق بمهارتها تلك التي تجيدها الراقصات، لكنه رغم ذلك، ولسوء حظه، لم يستطيع أن يقنع جمهوره كله بأن هزّ الوسط والبطن، يمكن أن يكون فنا رجاليا. ومع عدم نكراننا للتصفيق الذي أطلقه البعض في نهاية الحفل، مستزيدا بوليكفتش طالبا عودته إلى المسرح، فإن عديدين آخرين خرجوا من قاعة العرض، وعلى محياهم ابتسامات وكأنهم يستغربون ما شاهدوا أو ربما يستنكرونه أو يستقبحونه. لكن بوليكفتش استطاع أن يجتذب جمهورا غفيرا، وأن يملأ القاعة كل ليلة، كما لا يستطيع أهم المخرجين المسرحيين في العادة. فالناس جاءوا يسبقهم فضولهم ورغبتهم في اكتشاف هذا الرجل الذي يريد أن يزاحم النساء على واحد من الفنون القليلة التي سجلت تاريخيا باسمهن.

استقبل هذا الفنان الغاضب جمهوره بشريط يعرض لقطات لنجمات الرقص العربي، اللواتي حفرن في ذاكرة الجمهور العريض لسنوات طوال: سامية جمال، نجوى فؤاد، تحية كاريوكا، دينا، فيفي عبده، مقاطع من أفلام أو حفلات لهن تتتالى على وقع معزوفة موسيقية اختارها بعناية كي تتلاءم والمقاطع التي يعرضها للراقصات. يعود بنا الشريط إلى عصر ذهبي للسينما والرقص الشرقي معا، قبل أن تتوقف الموسيقى ويطل بوليكفتش، يعلق بساعده آلة موصولة بسماعة يضعها في أذنه، ويبدأ يرقص على وقع نبضات قلبه التي لا يسمعها أحد غيره. أمر يبدو خارجا عن المألوف. فالراقص يتمايل على وقع نبضاته في ما لا نسمع نحن غير صوت أنفاسه التي تتلاحق، وكأنما تحولت إلى موسيقى كئيبة ورتيبة. رتابة تنكسر بعض الشيء حين يحاول أن يخرج إيقاعات متقطعة بين الحين والآخر، من فمه.

في وصلة أخرى يدخل الراقص بسروال أبيض جميل خارج من ليالي ألف ليلة وليلة، صحبة عازف ساكسوفون، ومصورة فيديو. عازف الساكسوفون يتقصد أن لا يصدر أنغاما عذبة، إنها أشبه بإشارات أو رموز، والكاميرا تصور الراقص، وتحدّق في تعابير وجهه المتألمة، حركات قدميه، دورانه حول نفسه كما يفعل الدراويش، ثم تعكس الكاميرا كل هذا على الشاشة الخلفية. نرجسية عند بوليكفتش، تجعله في هذا العرض مسكونا بتصوير تفاصيل حركاته وسكناته، وعرضها مكبرة لكن ضبابية ومعذبة. في مشهد جديد ها هي الشاشة تعود لتعرض فيلما جديدا، الناس يمشون على الكورنيش في بيروت، الكاميرا تلتقط وقع أقدامهم، حركات خصورهم ومؤخراتهم، وإيقاع الطبلة يرافقهم، لنفهم أن الإنسان يرقص دائما حتى وهو يظن أنه يمشي فقط على الكورنيش. ملاحظة تضحك الجمهور الذي لم يكن، ربما، قد فكر في الأمر من قبل. يعود بوليكفتش إلى المسرح، هذه المرة بروح أخرى. ها هو يرقص وكأنه يتوه في مكان ما، فيما الشاشة تصور لنا أطلال مبان قديمة، درجا، يبدو الراقص وكأن طيفه يسبح عليه. هو يرقص على المسرح تلاحقه الكاميرا والطيف يمشي في المكان القديم على الشاشة، يصعد أدراجا، يجتاز غرفا، يخترق أبوابا. هل نحن في «بنت جبيل» جنوب لبنان التي قال بوليكفتش أثناء مقابلة تلفزيونية له، إنه رقص على أطلالها بعد الحرب الإسرائيلية عام 2006 كنوع من المقاومة، كما يفهمها هو وعلى طريقته الخاصة. يترك الفنان التقدير للجمهور، قبل أن يغيب ويعود ليقف وسط المسرح بتنورة طويلة، منتفخة، وحمراء بلون الدم. يدخل المتفرج مع هذا المشهد الأخير إلى المقطع الأكثر عنفا من هذا العرض. يبدأ بوليكفتش يحرك عضلات كفيه بطريقة أخطبوطية، يتلوى فتبرز عضلات بطنه وقفصه الصدر وكأن في جسده ثعبان يتحرك. قدرة هائلة لدى هذا الراقص على تحريك كل عضلة وكأنها ملك إرادته، ينفخها متى يشاء وينتقل لينفخ تلك التي بجانبها حين يريد. ليس في ما نرى جمالية تذكر، بقدر ما هو استعراض قدرات عضلية فائقة، بكل ما في الكلمة من معنى. المتفرج يخرج من هذا العرض الصعب والعنيف تحت وقع صدمة، لا يعرف بالضرورة كنهها. هل هو نفور من رجل يريد أن يرقص كالنساء، أم من إصرار هذا الفنان على أن الجمهور مضطر لتحمل الأزيز وجحوظ العينين والجلافة التعبيرية، ليفهم أن للرقص الشرقي أبعادا إنسانية تتجاوز النساء إلى الرجال. إنه حقا لعرض مثير للأسئلة، لكن مشكلته أنه يعترض على مشكلة القمع بعنف مشهدي متعب للمتفرج لا بل ومقزز أحيانا.