أشجار الزيتون والنخيل المعمرة.. للزينة!!

انتقلت من المزارع إلى الطرق وأمام القصور

TT

معروف عن اللبناني حبه للزينة، وتطلعه الدائم نحو كل جديد مميز يشبع رغباته التزيينية. ومن هنا كان سعيه نحو «استثمار» أشجار ـ مثمرة أساسا ـ بطريقة تتلاءم وطموحاته هذه، ولو اقتضى الأمر عدم إبقاء شيء في مكانه الطبيعي، أو تحويل غير المألوف.. إلى عادات جديدة، كما يحصل حاليا. ففي المدن اللبنانية كافة لوحظت أخيرا زراعة أشجار زيتون ونخيل معمرة عند مستديرات الطرق وفي وسطياتها، وأمام المحال التجارية والدور والقصور، فخسرت بذلك الحقول والبساتين امتياز «الحصرية»، وتبدلت هوية الأشجار الدهرية، فلم تعد رمز الاكتفاء والتموين والسند الاقتصادي الأساسي للأسر الريفية التقليدية، ولم يعد حديث أهالي القرى في مثل هذه الأيام مقتصرا على موسم الزيتون وجني الثمار، ومقدار عصره من الزيت وكيفية استخدام الجفت (زيبار الزيتون) للتدفئة، بقدر ما أصبح: «والله بعت الشجرة بمائتي دولار أو ألف»، مقابل من يقول: «والله.. اشتريت شجرة بخمسة آلاف دولار لأزرعها وأتمتع بشكلها». ويقول أحد خبراء وزارة البيئة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: «لا معلومات تفصيلية عن تجارة هذه الأشجار. زيتون الزينة متوفر في لبنان بكثرة ويتم تصديره، أما النخيل فغير موجود بهذه الكثرة ويتم استيراده». ويضيف: «المتاجرة بالزيتون ظاهرة حقيقية ولا تقيدها قيود، فالمواطن يبيع لأسباب، والتاجر يشتري ويبيع لأسباب. كل ما نعرفه هو أن هذه العملية تجري بصورة واسعة، وهي تتم وفق مبدأ العرض والطلب، فالشركات التي تهتم بتنسيق الحدائق يطلب منها أشجار زيتون فتقوم بشراء الشجر من المزارعين لبيعها، وعادة ما تكون الأشجار الكبيرة هي المستهدفة في هذه العمليات». ويوضح أن «نقل الأشجار من مكان إلى آخر يتطلب مراعاة مسألة التوازن بين الجذور والأغصان، إذ يجب الإبقاء على أكبر عدد من الجذور الغليظة والدقيقة حفاظا على الشجرة التي تعيش في أي ظروف مناخية وتثمر وتقطر زيتا».

ويبدو أن عمليات نقل الأشجار بين المناطق اللبنانية وبيعها تتم للحصول على المال. وهكذا بدل اقتلاع الأشجار واستخدامها للحطب، أصبح يمكن زراعتها في مكان آخر وإن كان للزينة، فغالبا ما يقطع المزارع عشرات الأشجار لبناء منزل، أو للحصول على المال لأغراض أخرى، ما يعني أن للظاهرة إيجابياتها. كما أن البيع يجلب مردودا ماديا ولو بسيطا لمزارعين يعانون من وضع اقتصادي مزر غالبا، تماما كمعاناتهم من عدم تصريف إنتاجهم من الزيتون والزيت.

وكما بالنسبة للزيتون، كذلك بالنسبة للنخيل. إلا أن لا معطيات وافرة لدى الوزارات المعنية، تحديدا الزراعة والبيئة، سوى أن هذه الشجرة كانت تستورد من مصر، قبل أن تمنع وزارة الزراعة استيرادها مع بداية عام 2009 لأسباب صحية، حيث يقال إنها تنقل معها ما يعرف ـ بلغة الزراعة ـ بـ«السوسة الحمراء» التي تضرب النخيل المصري وتؤثر سلبا في النخيل اللبناني. من الجنوب اللبناني، إلى الشمال، مرورا بالبقاع والجبل، مشاتل بالجملة وأشجار تنتظر الزبون ونسبة الأرباح تصل إلى 200% أو 300%. والتجار فخورون بمنتوجهم.

روبير عقيقي، صاحب مشتل كبير في منطقة جعيتا شمال بيروت، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «أسعار الزيتون تختلف وفق عمر الشجرة، وشكلها وحجمها، والتسعيرة تبدأ من 100$ وصولا حتى 7 آلاف دولار. وغالبا ما يأتي إلينا مزارعون عارضين علينا شراء أشجارهم، فإذا كان عمر الشجرة دون الـ100 عام نشتريها منه بـ25 دولارا ونبيعها بـ100$ آخذين في الاعتبار نقل الشجرة والاهتمام بها لسنة على الأقل قبل بيعها، وإذا كان عمر الشجرة أكثر من مائة عام فحتما السعر يختلف، علما أن التسعيرة تختلف حتى بين أشجار من العمر نفسه وذلك باختلاف الشكل مثلا». ويضيف عقيقي: «الظاهرة تنتشر سريعا، والمهتمون بالزيتونة كشجرة زينة في ازدياد، لا سيما في السنتين الأخيرتين، حيث أصبح الطلب كبيرا جدا، ولهذا تجد لديّ الكثير من الأشجار برسم البيع».

صاحب مشتل آخر يقول: «في أحيان كثيرة يقدم المزارع أشجاره مجانا إذا كان مثلا يرغب ببناء منزل أو لأسباب أخرى، ونحن أحرار بالنسبة للتسعيرة، المسألة قابلة للتفاوض والعرض والطلب». يرفض التاجر الدخول في التفصيل، ليضيف: «قد يصل السعر إلى 10 آلاف دولار، والأرباح إلى 200 أو 300%». لكن الخسارة واردة. يقول أحد التجار إنه «غالبا ما أشترى أشجار زيتون من مزارعين لبيعها للزينة لكنها لم تصمد كثيرا، فكان مصيرها الاحتراق في موقدة الحطب، فبعد اقتلاعها تحتاج شجرة الزيتون سنة كاملة لتتغلغل في التربة وسنتين لتظهر فعليا عليها علامات العيش السليم في تربة جديدة، و4 سنوات لتثمر.. وبالتالي الخسارة كما الربح يبقيان رهينة طريقة الاقتلاع الجيدة، والزرع الملائم». ويتحدث داني عازوري (مهندس زراعي وصاحب أحد المشاتل) عن أسعار النخيل، فيقول إن «قرار منع الاستيراد كان له انعكاساته الكبيرة على الداخل، فبات الشجر هذا، وبدل استيراده، يقلع من طرابلس وصور مثلا لينتشر ويباع في سائر المناطق اللبنانية، كما كان لحظر الاستيراد تأثيرات كبيرة في الأسعار، فبعدما كانت الشجرة بجذع طوله أربعة أمتار تُباع بـ300$ باتت اليوم تباع بما لا يقل عن 1000 دولار إلى 1300 دولار». بين التجار من فضل الإبقاء على التراث اللبناني والزيتونة دون مساس.. على الرغم من مغريات البيع، فإن مصلح سري الدين، وهو صاحب مشتل في منطقة الشوف، يقول إنه «كان يتاجر قديما بشجرة الزيتون، لكنه الآن يرفض هذه التجارة بالمطلق، على اعتبار أن دولا كثيرة تبحث عن شجرة الزيتون لتزرعها وتستفيد منها ونحن نقتلعها ونبيعها ولا نعرف قيمتها. فالأرز قطفناه وبعناه، ونحن نبيع تراثنا ببيعنا لشجرة الزيتون. لماذا في سورية مثلا تستثمر أشجار الزيتون، ونحن لدينا علاقاتنا الدولية ولا نستطيع دعم هذه الزراعة كيف هذا؟!!».

ويضيف: «باستطاعتي تصدير أشجار الزيتون لبيعها في الخارج، لكن قلبي لا يطاوعني. فشجرة الزيتون تتلاءم كثيرا وطبيعة منطقتنا، فهي ليست بحاجة للمعاملة الكبيرة كما أنها خيّرة. في أوكرانيا مثلا باتوا يزرعون أشجار الجوز بكثرة، وعلى الرغم من أنهم يشتهرون بهذه الزراعة فإنهم يولونها اهتماما كبيرا ولا يبيعونها مثلا، بينما نحن هنا في لبنان نتاجر بكل شيء، ففي إقليم الخروب لا تجد خروبا، وفي إقليم التفاح لا تجد تفاحا!!».

لا يختلف اثنان من المزارعين اللبنانيين على قيمة الزيتون وجودة زيته، لكن للأوضاع الاقتصادية أحكامها بالنسبة لكثير منهم. يقول المزارع يوسف حدشيتي: «عسى ألا نصل إلى مرحلة نبيع فيها بيوتنا وليس فقط أشجار الزيتون. فالزيت يكدس والزيتون لا يباع.. ماذا نفعل؟». وفيما رفض بعض المزارعين مطلقا المساومة على البيع، قال بعضهم الآخر إن الشجرة فقدت اليوم قيمتها مع الأوضاع الاقتصادية.