المسرح البريطاني يجمع عرّابة الشعر الحديث ورائدة مسرحية

بَيت أليسون فازت بجائزة «بوليتزر» الأميركية في الثلاثينات

ملصق العرض
TT

«باستطاعتي أن أخوض في الحزنِ، في برك من الحزنِ بأكملها، لكن أبسط دفعات الغبطة تكسر قدمَيّ..

فإذا بي أترنح سَكْرى» هذا البيت الشهير يلخص كل محنة الشاعرة الأميركية أميلي ديكنسون (1830 ـ 1886)، التي أثرت في الشعر الأميركي والعالمي بقصائد قليلة اكتُشفت بعد موتها، كما لم يفعل أي شاعر آخر. وفي الحقيقة، لم تعرف ديكنسون سوى دفعة واحدة من الغبطة حين أحبت رجلا متزوجا لفترة قصيرة، ثم عادت إلى عزلتها في غرفتها الصغيرة في الطابق الثاني من بيت الأسرة الكبيرة بعد فشل العلاقة، إلى حين رحيلها، وكأنها «تريد أن تخبئ في الصمت روحها النادرة عن أعيُن العالم الفظة»، كما تقول في قصيدة أخرى لها.

هل تنشر العائلة هذه القصائد أم لا؟ هل هي شيء خاص بالشاعرة، وبالتالي العائلة، أم أنها ملك للعالم كله؟ وكانت أميلي ديكنسون احتفظت بأغلبية قصائدها، وبخاصة تلك التي تتحدث عن علاقتها الفاشلة، في أربعين حزمة صغيرة، عثرت عليها أختها، ثم سلمتها هذه بدورها، وقبل لحظات من موتها، لابنة أخيها، التي عادت إلى البيت بعد هروبها مع الرجل الذي تحب.

هذا هو المحور الرئيسي في مسرحية «بيت أليسون»، التي يعرضها مسرح «أورانج تري» حتى السابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) القادم. وهي من إخراج جو كومبس، وتأليف الكاتبة المسرحية الأميركية سوزان غلاسبول، التي وُلدت عام 1876، أي قبل موت أميلي ديكنسون بعشر سنوات. وهي آخر مسرحية تكتبها غلاسبول، قبل أن تصاب بمرض الكآبة، وأمراض أخرى أدت إلى رحيلها عام 1948. وفازت هذه المسرحية بجائزة «بوليتزر» عام 1931. ولكن المؤلفة غيرت اسم العائلة، واسم الشاعرة، على الأرجح بسبب المعركة القانونية التي خاضتها العائلة ضد باسم حقوق «الملكية الفكرية» ضد الصحف والكتاب الذين أردوا نشر قصائدها، وقصة حياتها، وربما لـ«تغريب» العمل، ومنحه حرية أكبر في التعامل مع الحدث، وإبعاده عن الصبغة التوثيقية، على الرغم من استلهامه حياة أميلي ديكنسون حرفيا تقريبا، واستعانته بقصائدها. تبدأ أحداث المسرحية في اليوم الأخير من القرن التاسع عشر، بعد موت الشاعرة التي سمتها المؤلفة «أليسون»، بستة عشر عاما (في الحقيقة يفصل موت أميلي ديكنسون عن الحدث المسرحي أربعة عشر عاما). واستخدم المخرج كومبس ما يشبه المسرح الفقير في تقديم عمله هذا، بلا ديكور تقريبا، سوى بضعة كراسي، وسرير وطاولة، وقليل من الموسيقى. فطبيعة العمل نفسه لا تحتاج أكثر من ذلك، إذا يمكن تصنيف المسرحية باعتبارها، جوهريا، مسرحية أفكار، أكثر مما هي مسرحية أحداث تتصاعد دراميا، على الرغم من عدم خلوها من مثل هذه الأحداث خصوصا في الفصل الثاني.

يبدأ الفصل الأول بزيارة المستر نوز، الصحافي والشاعر (مثّل دوره نيكولاس غاد) محاولا إقناع العائلة بالسماح بنشر قصائد أليسون، لأنها «ملك للعالم كله، لا لتلك الغرفة الغرفة في الطابق الثاني». ولكن شقيقها الكبير يرفض ذلك بقوة، مهددا بإحراق كل شيء، بحجة أن أليسون كتبت تلك القصائد لنفسها، لا للآخرين، وعلى هؤلاء تركها ترقد بسلام في قبرها. وتبتعد الأحداث هنا عن الموضوع الأساسي، أو لتعمقه عبر تناول الشخصيات الأخرى في العائلة، وتعامل بعضها مع بعض. وتطرح الكاتبة من خلال ذلك قضايا جوهرية بدأت تطرح نفسها بقوة مع أفول القرن التاسع عشر مثل السمعة الاجتماعية، والتعصب والتسامح، والموقف من المرأة، وهيمنة القيم الذكورية، وبداية زحف القيم المدينية في مجتمع زراعي، هو مجتمع مدينة أيوا. لكن روح الشاعرة الراحلة ظلت مهيمنة، فبينما تستعد العائلة لبيع البيت «لأنه بات كبيرا عليها»، تبدأ الأحداث في التصاعد: عودة الابنة الهاربة ألسا (من تمثيل غراين كينان)، وزيارات الصحافي والشاعر نوز (الممثل كريستوفر رافنسكروفت) بعد أن أحب سكرتيرة جون ستانهوب (الممثل كريستوفر رافنسكروفت)، وهو الأخ الأكبر للشاعرة وصاحب البيت، وكذلك عبر أسئلة الابن الأصغر (مثّل دوره دودلي هنتون) الذي يحاول أن يعرف كل شيء عن عمته «لتي يهتم بها العالم، وهو لا يعرف عنها أي شيء». وتصل المسرحية إلى ذروتها مع احتضار العمة الكبيرة أغثا (الممثلة المخضرمة جيورجين أندرسون). إنها تختار تسليم رزمة صغيرة، تضم بعض قصائد أليسون ورسائلها إلى ألسا ـ الفتاة التي تمردت على التقاليد، وهربت مع الرجل الذي أحبته ـ لا إلى أي عضو آخر من العائلة، وكأنها استمرار لروح الشاعرة المتمردة، وإن بشكل آخر، وهذا واضح أيضا من منحها اسم أليسا، وهي تصغير لاسم الشاعرة الراحلة، أليسون.

لقد حاول الأخ الأكبر، حارس التقاليد و«السمعة الاجتماعية» أن يحرق الرسائل والقصائد، خصوصا تلك التي تتحدث عن حبها الفاشل، لكنه يضعف في النهاية أمام قوة الكلمات. وهكذا، يستمر حضور أليسون بقوة، بل إنها تصبح أكثر قوة بعد موتها، مؤثرة على مصائر الجميع بشكل أو بآخر، بعدما كان هذا التأثير معدوما تماما في أثناء حياتها. وسيخترق هذا التأثير جدران ذلك البيت المعزول ممتدا في كل أنحاء أميركا، ثم يصل إلى العالم ليغير ملامح الشعر الحديث من خلال قصائد قليلة لا يتجاوز طول الواحدة منها عشرة أسطر، وفي أقصى الحالات خمسة عشر سطرا. بل إن كثيرا من الشعراء والنقاد، وفي مقدمتهم إزرا باوند، عرّاب الشعر الحديث في القرن العشرين، يعتبرون أن الحداثة الشعرية الحقيقة قد بدأت بتلك القصائد، التي ظلت طويلا مختبئة في تلك الحزم الصغيرة البالية.

* أميلي ديكنسون: الشعر والعزلة

* وُلدت أميلي ديكنسون عام 1930، في أمهرست، ماساتشوستس، في عائلة متدينة. التحقت بكلية للبنات، ثم تركتها بعد سنة واحدة، لتبدأ حياة العزلة حتى وفاتها، شاغلة نفسها بالقراءة الواسعة، والمراسلة والخياطة. بدأت عام 1850 بكتابة الشعر، وأخفت قصائدها في حزم صغيرة أخفتها حتى وفاتها. ويقدَّر عدد هذه القصائد بـ1800 قصيدة لم يُنشر منها سوى عُشرها. ومن الشخصيات التي احتفظت بمراسلات منتظمة معها صامويل باولز رئيس تحرير «سبرينغفيلد». ويقال إنها أحبته من طرف واحد، وكرّست له عدة قصائد.

رحلت ديكنسون عام 1886، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها. وعثرت أختها على 40 رزمة من القصائد التي نُشر البعض منها عام 1890. ولكن لم تُنشر قصائدها كاملة حتى عام 1955، بعد معارك طويلة مع العائلة. وفي عام 1981، نُشرت القصائد للمرة الأولى حسب تسلسلها الزمني.

* المؤلفة سوزان غلاسبل:

* المرض والإبداع

* وُلدت المؤلفة المسرحية سوزان غلاسبل عام 1876 في دافنبورت (أيوا) في الولايات المتحدة. درست في جامعة دريك، ثم عملت مراسلة صحافية. نشرت روايتها الأولى 1909، وروايتها الثانية بعد سنتين. وكتبت آخر رواية لها عام 1915. وهي رواية «الخيانة»، لتتفرغ بعدها للكتابة المسرحية. بعد ترك زوجها لها بدأت غلاسبل تتعرض لنوبات كآبة حادة. وتهورت صحتها في السنوات اللاحقة، لكنها استمرت بالكتابة إلى حين وفاتها بالسرطان عام 1948.