التانغو.. لغة مشتركة للحديث عن المرح في بيئة موحشة

اليونسكو تعلنه تراثا إنسانيا يجب الحفاظ عليه

TT

في أربعينات القرن التاسع عشر كانت هناك طريقة وحيدة كي يستطيع فتى أرجنتيني في الثالثة عشر من عمره أن يتعلم رقصة التانغو، كان عليه أن يجوب بيونس أيرس من أقصاها إلى أقصاها. رحلة تقتضي ثلاث سنوات، يمكنه بعدها، إذا ما حالفه الحظ، أن يدعو امرأة لتشاركه الرقص.

أمر مدهش ومثير للفضول، ففي كل زمان، وبغض النظر عن اختلاف الحضارات، ثمة شاب يجوب مدنا ليحصل العلم عن شيوخه. يبدو أن للغواية طريقة واحدة في العمل. ولقد كانت في بيونس أيرس تتخذ شكل التانغو. مؤخرا، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) رقصة التانغو جزءا من التراث الثقافي الإنساني غير الملموس، الذي يجب حمايته من التغيرات العالمية، حيث شكلت هذه الرقصة في بكارتها نوعا من اللغة المشتركة بين طيف إنساني شديد التنوع، وتلك حكاية.

يمكن أن نعود إلى بداية عصر النهضة، أمام ساحل البرتغال حيث كانت السفن الراسية هناك مازالت تحمل شعارا ورثته عن العصر الوسيط، «لا يوجد ما هو أبعد». كانوا على خطأ. وبحلول عام 1526 كان ستبستيان كابوت، وهو ملاح إيطالي التحق بأسطول الإسبان، يبحر في أقاصي هذا البعيد، وهو يمحو خط الأفق بالبوصلة والبارود، وقد مال باتجاه حوض نهر ريو دي لابلاتا بحثا عن مؤن، لكنه سيقضي هناك أربع سنوات بإلحاح من غواية الفضة، وقد فتح شهية الإسبان للبقاء هناك. بعد عشر سنوات يواصل بيدرو دي ميندوزا صعود النهر، كان ميندوزا الحاكم العسكري لأراضي التاج الإسباني جنوبي نهر ريودي لابلاتا «نهر الفضة»، والذي اكتشف بيونس أيرس أول مرة. ندرك اليوم لماذا كانت بيونس أيرس بالذات المكان المناسب لاختراع التانغو لكننا لا نعلم كيف أمكن لخليط من المهاجرين حملوا معهم معرفة فظة بموضات الرقص المنتشرة آنذاك أن ينتجوا إحدى أروع الرقصات وأكثرها تأثيرا في التاريخ الحديث. كانت بيونس أيرس قرية صغيرة في أقاصي العالم تقطنها قبائل تحترف الصيد، على الرغم من ذلك ظلت عصية على الإسبان حتى عام 1580، وبعد مرور قرن من بداية حركة الاستيطان كان تعداد المدينة لا يتجاوز أربعة آلاف نسمة. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أعيد اكتشاف المدينة. لقد انتبه الإسبان لأهمية موقعها الجغرافي فغدت عاصمة الإمبراطورية هناك. بدأ سيل المهاجرين يتدفق إليها، لكن على العكس مما حدث في العالم الجديد من انتقال أسر بكاملها أملا في حياة جديدة على أرض جديدة، كانت الهجرة إلى الأرجنتين لأناس آملين في سنوات قليلة من العمل يعودون بعدها إلى ديارهم. لذلك كانت الأغلبية الساحقة من المهاجرين رجالا. ولأنهم لم يوفروا قدرا معقولا من المال، لم يكن بوسعهم العودة، كذلك لم يكن بإمكانهم الاستقرار وتكوين أسر وإنجاب أطفال. ببساطة لأنه لم يكن هناك قدر كافٍ من النساء يسمح بذلك. كانت بيونس أيرس مدينة تعوزها النساء، ومن كان يرغب في الاقتراب من امرأة لم يكن أمامه إلا أمر من اثنين: أن يذهب إلى بيوت الدعارة، أو يتعلم التانغو. على الرغم من أن التانغو يبدو اليوم الرقصة الوحيدة التي تسمح بهذا القدر من الحميمية، فإنه ثالث رقصة في التاريخ لها الوضعية نفسها: رجل وامرأة متواجهان يمسك بيده اليسرى يمناها، بينما يحيطها بذراعه الأخرى. أولى هذه الرقصات «الفالس»، وهي رقصة وُلدت في فينسيا قبل أن تعبر أوروبا بجنون خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر. الرقصة الثانية الـ«بولكا» وهي رقصة من فلكلور إقليم بوهيميا (في التشيك قديما) بخطوات سريعة وبسيطة. وقد غدت موضة أربعينات القرن التاسع عشر. بالتأكيد كانت فكرة وجود زوج يقوم بخطوات راقصة معتادا قبل الفالس والبولكا بزمن طويل، إنما بلا اتصال جسدي، مكتفين بتشابك الأيدي. الاختراق الجديد الذي قدمه التانغو كان إدخال فكرة الارتجال للمرة الأولى في الرقص الحديث. توجد نظريات عديدة عن أصل كلمة «تانغو»، أكثرها انتشارا في السنوات الأخيرة تعود بها إلى أصول إفريقية، فقد وجدوا أن الكلمة قد استُخدمت بالفعل وسط مجتمع الزنوج في بيونس أيرس وأتت نتاج الخلط بين اسم إله الطبول لديهم وكلمة الطبل بالإسبانية.

يرى تفسير آخر أن الكلمة كانت شائعة بالفعل في إسبانيا للتعبير عن شكل موسيقى هو «تانغو أندولوز» وهي منطقة في إسبانيا كانت موطن الفلامينكو الذي أصبح أحد أكثر الأشكال الموسيقية انتشارا في بيونس أيرس منتصف القرن التاسع عشر، ذلك رغم اختلاف التانغو في الأرجنتين تماما عن الموسيقي الإسبانية التي استعار اسمه منها. في كل الأحوال، لم تكن هناك رقصة إفريقية تقليدية بالوضعية ذاتها يمكن أن تكون قد تطورت إلى التانغو. مثل هذا النوع من الرقص، وفق هذا التفسير، بدأ أساسا في أوروبا. لا يبدو أن هناك دليلا أكيدا حول أن الرقصة قد نشأت بين الأفارقة في بيونس أيرس، كما لا يوجد أي أثر باق من الرقص الإفريقي بها.

لذلك لن نندهش حين نعلم أن أهم الموسيقيين الأوائل قد قضوا فترة طويلة من حياتهم وهم يعزفون التانغو لفقراء بيونس أيرس، الذين كانوا يجدونها فرصة مناسبة للتدريب، في ظل منافسة حامية على حلبات الرقص، كان البقاء فيها للأكثر براعة. ولأن التكنولوجيا الحديثة لم تكن قد أسعفتهم بعد، كان عليهم أن ينتهزوا فرصة وجود موسيقى حية يستطيعون معها أن يتدربوا معا على خطوات جديدة. كان من المألوف في بيونس أيرس خلال هذا الزمن أن تجد زوجين من الرجال يرقصان معا، وقد أخذ أحدهم دور المرأة، وقد نسيا لبعض الوقت خيبة الأمل، بحثا عن المجد فوق حلبات الرقص.

وُلد التانغو في أفنية المجمعات السكنية حيث يعيش الفقراء الذين جاءوا من أماكن مختلفة ومن ثقافات متنوعة، وكان التانغو لغتهم المشتركة للحديث عن المرح في بيئة موحشة.