غلاسهوته.. مدينة ألمانية صغيرة فرضت اسمها على صناعة الساعات في أوروبا

بعض إنتاج «لانغه» يباع بـ 400 ألف يورو

بيل كلينتون عرف عنه اقتناؤه ساعة من إنتاج «نوموس»
TT

قبل عشرين سنة، كانت مدينة غلاسهوته الصغيرة القابعة في أعماق ريف ولاية سكسونيا بما كان يعرف بـ«ألمانيا الشرقية» تعيش بهدوء في أحضان وادي نهر مغليتز الرائع، على الطريق بين دريسدن عاصمة سكسونيا والحدود التشيكية. فقد واجهت صناعة الساعات الألمانية التي أبصرت فيها النور وانطلقت منها لتملأ شهرتها الآفاق ردحا من الزمن، فترة عصيبة.. ولم يبق من العاملين فيها سوى مائة موظف وتقني، بعدما بلغ في عز نشاط مشاغل غلاسهوته حوالي ألفين ومائتين.

ثم انهار «جدار برلين» في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989، وتلاه خلال سنة النهاية الفعلية لرواسب الحرب الباردة فوق أرض ألمانيا. فحزم فالتر لانغه، حفيد مؤسّس أحد أشهر الأسماء في تاريخ صناعة الساعات في ألمانيا والعالم، حقائبة وقرّر العودة إلى غلاسهوته.. وتراب سكسونيا، يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 1990، بعدما كان قد أجبر على مغادرة ألمانيا الشرقية الشيوعية عام 1984. والواقع، أنه كان ليوم 7 ديسمبر دلالته الخاصة ذلك أنه اليوم نفسه الذي أسّس فيه جده الأكبر (جد أبيه) فرديناند أدولف لانغه في العام 1845 شركة «لانغه» الأصلية لصناعة الساعات في المدينة.

الجدير بالذكر، أنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا، أقدم النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، حيث وجدت غلاسهوته ذاتها في البلد المقسّم الجريح، على تأميم مشاغل الساعات الشهيرة وشركاتها في غلاسهوته، على غرار ما فعله بالعديد من المؤسسات والشركات الصناعية الأخرى، وجعلها مؤسسة حكومية تحمل اسم «غلاسهوته لصناعة الساعات» (جي. يو. بي). وفي ظل الحكم الشيوعي الألماني الشرقي أنتجت المؤسسة «الحكومية» ساعات اتسمت بالمتانة بيد أنها كانت ذات تصاميم بسيطة وأثمانها رخيصة مناسبة لميزانيات المواطنين وكثيرين من مواطني دول أوروبا الشرقية المجاورة، ولكن القليل جدا منها كان يجد طريقه إلى الاتحاد السوفياتي السابق، حيث كان للروس اهتماماتهم الخاصة بصناعة الساعات. من جهة ثانية، لضرورات تسويقية حملت الساعات التي كانت تصدّر إلى ألمانيا الغربية والدول الرأسمالية عبارة «صنع في ألمانيا» مجردة من ذكر الجزء الشرقي على ظهرها، والواضح أن الغاية كانت إخفاء حقيقة كونها صنعت في ألمانيا الشرقية مما قد يثير مخاوف لدى المشترين الغربيين من تدني جودتها.

ومرّت السنون، وواصلت مشاغل غلاسهوته إنتاج الساعات ولكن ضمن الإطار والنطاق الضيق لـ «جي. يو. بي» التي كانت تخضع لقيود حكومية صارمة عبر 40 سنة. غير أن الأوضاع اتجهت نحو التأزم في عامي 1989 و1990 قبل أن تعود إلى الازدهار، إذ عانت المؤسسة ومعها المدينة الصغيرة من تراجع خطير في المبيعات نتيجة تداعي الكتلة الشرقية في أعقاب انهيار «جدار برلين».

وفي تصريح لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) قال أيريخ فون بوليم، وهو مقتني ساعات في مدينة أيسن (غرب ألمانيا) إنه لم يكن يتصوّر إطلاقا أن غلاسهوته ستتعافى من آثار انهيار الشيوعية، «لكنها حققت ذلك وبصورة ملحوظة للغاية خلال السنوات العشرين الماضية بفضل روح العمل والالتزام عند أشخاص مثل فالتر لانغه». والواقع، أن بداية عهد غلاسهوته مع صناعة الساعات قديمة. وكانت هذه الصناعة قد انطلقت في أوروبا ونمت بصمت كحرفة «مشغلية» منذ بضعة قرون في أرياف جبال الجورا بشرق فرنسا وغرب سويسرا وفي مناطق سكسونيا بشمال شرق ألمانيا. وكانت الحركة البروتستانتية بتقشفها وتركيزها على العمل الدؤوب قد أسهمت في تحويل أرياف غرب سويسرا إلى مهد لصناعة الساعات التي ازدهرت خصوصا في مدينة جنيف ومدينة لا شو دو فون وبلدة لولوكل وقرى وادي الفاليه دو جو ثم مدينة بييل (بيين). أما في ألمانيا فكان المهد الأبرز مدينة غلاسهوته الصغيرة، حيث بلغت هذه الصناعة قمة التفوق التقني بفضل حرفيين نابغين أشهرهم فرديناند أدولف لانغه وجوليوس آسمان، وبعدهما موريتز غروسمان ويوهانس دورشتاين وغيرهم. ولقد أسّس لانغه مشغله، الذي صار اليوم معقل إحدى أعظم ماركات الساعات وأرقاها في العالم، في غلاسهوته ـ كما سبقت الإشارة ـ يوم 7 ديسمبر عام 1845. واكتسبت منتجاته بمرور الزمن احتراما كبيرا وشهرة واسعة، حتى إن القيصر فيلهلم (وليم) الثاني أوصى لانغه عام 1898 بصنع ساعة جيب فائقة الفخامة ليهديها إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بمناسبة زيارة القيصر الألماني إلى السلطنة العثمانية. بيد أن اندلاع الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة ألمانيا النازية حمل نهاية الفصل الأول من سيرة دار لانغه العريقة، وفي آخر أيام الحرب عام 1945 قصفت مشاغل الدار ودمّرت بالكامل. وجاءت عام 1948 الضربة الموجعة الثانية مع تأميم الدار ومصادرة أملاكها وموجوداتها ومغادرة أبرز الورثة أراضي سكسونيا وطويت فعليا صفحة مشرقة في تاريخ صناعة الساعات في غلاسهوته، وفي ألمانيا ككل.

وبعدما دارت السياسة دورتها كاملة، عاد «الحفيد» فالتر لانغه (المولود عام 1924) الذي كان مهتما بصناعة الساعات وتراث العائلة منذ نعومة أظفاره، إلى غلاسهوته، ليعيد تأسيس الماركة عالميا وتسجيلها رسميا لدى سلطات ألمانيا الموحدة، بدعم من بعض الصانعين السويسريين على رأسهم دار «آي دبليو سي – شافهاوزن». فعام 1991 أسّس رجل الأعمال الناجح الراحل غونثر بلوملاين المدير التنفيذي لـ«آي دبليو سي» مجموعة «إل إم آش» القابضة التي امتلكت 100% من «آي دبليو سي» و90% من «أ. لانغه أوند سونه» و60% من «جيجير لوكولتر». وعام 1994 استأنفت «لانغه» في عهدها الجديد الإنتاج بنفس المعايير الرفيعة التي بوأتها مكانة محترمة في الشريحة الأعلى نوعية وأسعارا بين الأسماء العالمية الأشهر، عندما عرضت باكورة إنتاجها في دريسدن. وفي يوليو (تموز) عام 2000 استحوذت مجموعة «ريشمون فينانسيير» السويسرية العملاقة على «إل إم آش» بماركاتها الثلاث الشهيرة، وكانت ريشمون قد أكملت عام 1997 امتلاكها مجموعة «فاندوم» مالكة دور «كارتييه» و«بياجيه» و«بوم إي ميرسييه» و«فاشيرون كونستانتان» و«دانهيل» وغيرها من الأسماء التجارية الشهيرة. ومما يستحق الذكر أن «لانغه» في سياق حرصها الشديد على أرقى مستويات الإنتاج حافظت على التزامها باعتماد منظومات الحركات الميكانيكية وهي لا تستعين بالكوارتز مطلقا، إلا في تشكيلات تذكارية عابرة. وأيضا كل علب ساعات لانغه تقريبا مصنوعة من المعادن النفيسة وتحديدا الذهب والبلاتين ولا يستخدم الفولاذ فيها.

ولذا تحظى «أ. لانغه اوند سونه» – أي «أ.لانغه وولده» ـ التي يعمل لديها حاليا 500 شخص ينتجون آلاف الساعات العالية الجودة سنويا، ـ بشهرة عالمية واسعة لإنتاجها بعض أرقى وأفخر وأغلى الساعات في العالم.. التي تتراوح أسعارها بين 12 ألفا و900 يورو (19 ألفا و260 دولارا أميركيا) و400 ألف يورو. لماذا يقبل الناس على شراء ساعات «لانغه» الكبيرة والثقيلة.. والثمينة جدا؟

فابيان كرونه (41 سنة)، المدير التنفيذي في «أ. لانغه اوند سونه»، التي تملكها مجموعة «ريشمون فينانسيير» السويسرية العالمية، والإداري السابق في شركة «ألفا روميو» يقول إن لانغه ساعات قيمة تتوارثها الاجيال، «ومن يضع على معصمه ساعة لانغه قائد.. لا يعود بحاجة لأن يثبت ذلك».

ولكن غلاسهوته وتراثها لا يقتصران على لانغه.

فهناك شركات أخرى تعمل في «مدينة الساعات» الألمانية منها «غلاسهوته أوريجينال»، التي تملكها مجموعة «سواتش» السويسرية العملاقة، ونوموس، وتوتيما.. وغيرها.

فـ«جي. يو. بي»، ورثتها «غلاسهوته أوريجينال» التي تسوّق تحت اسمها الجديد ساعاتها الفاخرة أيضا في مختلف أنحاء العالم، متمتعة بقوة دعم «سواتش» التي تعد أكبر مجموعة متخصصة في صناعة الساعات ومكوناتها في أوروبا. وبين طرازات «غلاسهوته أوريجينال» طراز عالي الفخامة هو «جوليوس آسمان 4» كرّمت من خلاله الشركة جوليوس آسمان، أحد رواد الساعات الألمانية في غلاسهوته. أما نوموس، فقد أُسست في مطلع تسعينات القرن العشرين عندما حضر مؤسسها رولاند شفرتر من مدينة دوسلدورف، بغرب ألمانيا، لزيارة أقارب له في سكسونيا حيث جذبته الصناعة فيها. ولقد حوّل شفرتر موقع محطة قطارات قديمة مهملة إلى مركز لتصنيع الساعات، وزوده بالعديد من الآلات التي تعمل بالكومبيوتر. وفلسفة شفرتر تقوم على مبدأ أن «يقدم للسوق ساعات جيدة وقوية وجميلة دون أي إضافات غير ضرورية». وحاليا يعد طراز «تانجنت» الرائد ضمن تشكيلة منتجات نوموس، وهي ساعة ذات جسم مستوٍ صنع من الصلب، وقلب من السهل رؤيته لمعرفة الوقت... إذ يعتمد تصميمها على مبدأ «الوظيفة ثم الشكل». وبخلاف ساعات «لانغه» و«غلاسهوته أوريجينال» الثمينة، تتراوح أسعار ساعات نوموس بين 900 و1900 يورو للواحدة، حسب ما إذا كانت أوتوماتيكية الحركة أو يدوية وإذا ما كانت تحوي أي سمات إضافية.

أما عن المشاهير، فيقال إن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ووزير خارجية ألمانيا المنتهية ولايته فرانك فالتر شتاينماير والممثل البريطاني العالمي روجر مور.. جميعا يعتزون باقتنائهم ساعة من إنتاج «نوموس».