أحمد نوار يجسد ملحمة العبور في معرض حاشد بالقاهرة

معزوفة لونية على وتر الهزيمة والنصر

الهجوم
TT

في معرضه الحاشد بقاعة أفق بالقاهرة، يحمل الفنان أحمد نوار هموم وطنه وقضاياه، وينكش في طبقات ذاكرته، مستوحيا لحظة نادرة وخلاقة في تاريخ هذه الذاكرة، لحظة العبور في حرب أكتوبر 1973، والتي انخرط فيها وعاش تفاصيلها كمقاتل قناص من طراز خاص. تنفرط عناقيد تلك اللحظة الحية في لوحات المعرض، مشكلة نسيجا دراميا تتقاطع فيه روح الملحمة والحلم، وواقع الإنسان صانع البطولة والنصر.

يتوحد نوار بموضوعه الأثير الحرب والسلام، ويدفعه إلى مناطق مدهشة من التجريب والاعتصار، وبحس أكاديمي مثقل بتراكم المعرفة والخبرة الجمالية يطوره ويعالجه فنيا من منظور ديناميكي بانورامي، تتعدد فيه الرؤى والمستويات، حتى يولد في نهاية الأمر من رحم اللوحة نفسها، مستمدا صيرورته من خطوطها الصلبة العنيدة، وزواياها الشفيفة الحادة، وألوانها الحارة المفعمة بالتوثب والاشتعال.

للوهلة الأولى تستوقفك معزوفة لونية مغمورة بأشكال وتكوينات ومجسمات، تتميز ـ على الرغم من متانتها ورصانتها وتوازنها ـ بإيقاع مرن، يكسبها مقدرة التحليق برشاقة وحيوية فوق السطح، حتى إنها تتخفى أحيانا في عيانها الظاهر المباشر، لجذب العين إلى ما هو أبعد وأعمق، في تجاويف اللوحة نفسها. وهو ما يفسر تباين العلاقة ـ في كثير من الأحيان ـ بين اللوحة واسمها، مهما كان الموضوع أو الفكرة التي تنطلق منها، فالاسم لا يلعب دور الغطاء الخارجي، بل يظل مجرد إشارة، ومفتاح صغير للولوج إلى عالم اللوحة المكثف بالإيحاءات والدلالات.

يرصد نوار تداعيات الهزيمة، وقسوتها، ومرارتها في وجوه وملامح البشر والعناصر والأشياء، ويمجد لحظة الانتصار، كطاقة مدفونة في تضاريس الروح والجسد. فالخطوط شفيفة، مشدودة على استقامتها، تتصالب، وتتصادم أحيانا بقوة، وتتقاطع مكونة رأس مثلث، أو مربع، أو مستطيل، وكأنها وتر يعزف على قوس الكتلة والفراغ. وما بين لحظتي الهزيمة والانتصار تحلق تكويناته وأشكاله في فضاءات حارة مستقاة من روافد واقعية، وتومض كتميمة ضد الموت، وضد الزمن. فحين يجسد وطأة الهزيمة والانكسار، تكتسي اللوحة بمساحات من البني والرمادي الذابل المطفي، وبخطوط مرتعشة ومنكسرة، تحت وطأة الأكريلك الرجراج، وينكفئ الشكل على نفسه في الأسفل، معصوبا بغلالة من السواد، ويبدو كرأس طائر مغلولة رقبته بحزمة من الخيط الحاد، أو يتراءى مثل كابوس جاثم، على حلم مطمور تحت الحطام، ينتظر شرارة الانعتاق. وعلى العكس من ذلك تشع اللوحات التي تمجد الصمود والإرادة والتحدي والانتصار، بومضات خاطفة وحانية من النور، تتبدى في لطشات من الأصفر المزهر، والأحمر الحار، والأبيض الشاهق، المشرب أحيانا بومضة معدنية من الرمادي الخافت. وتطل موتيفات مضيئة على شكل هلال، ونباتات وطيور، كما تتبرز تعاليق شعبية ومجسمات بسيطة، ويدخل عَلم الوطن بألوانه المتوهجة الساخنة، في ثلاثية هرمية، دلالة على انتفاضة النشيد، وعودة الروح، وصحوة الإرادة.

وفي بعض اللوحات يطلق نوار العنان لفرشاته بالرسم على مجسم للنوتة الموسيقية، مجسدا نشوة الفرح بالانتصار، فنحس بنوع من التوقيع النغمي، تتردد أصداؤه في جنبات اللوحة، بينما تبدو الألوان وكأنها رنات أو صدى لهذه النغمية.

تعزز كل ذلك حالة من العضوية تنصهر فيها مقومات وعناصر اللوحة فكريا وجماليا، حتى تبدو وكأنها كتلة واحدة، فالإنسان هو الدبابة، هو المدفع، هو الصاروخ والطائرة والغواصة، الكل يتماهى في اللوحة، ويبحث عن كينونته في مائها.

بيد أن المعنى الحقيقي في لوحات نوار يتبدى في دقة الارتباط بين الألوان وبين الإشكال، ولا ينهض هذا الارتباط ـ كما أتصور ـ على منطق التعارض أو التضاد، وإنما على السعي الدائم لخلق إيقاع خاص بينهما، يؤالف بين هندسية الشكل الأكثر بروزا، وتكوين الصورة الأكثر تراصا وهيكلية، حتى إن الأشكال المتنوعة بمظاهرها التجريدية ذات المسحة التكعيبية تتحول إلى مساحات رقيقة من المكاشفة والصفاء، تغري العين بما هو أبعد من حاسة اللمس المباشرة، وتدفعها إلى اكتشاف الطاقة الروحية الكامنة فيها.. إنها أشكال مفتوحة على الداخل والخارج، يدخلها الضوء واللون من كل اتجاه.

ومن السمات اللافتة والمثيرة في اللوحات أن اللون لا يميز الشكل فحسب، بل يحوله إلى كتل مسطحة، يحوطها بخيوط لا تتوقف كثيرا عند التفاصيل، وإنما تبدو مشدودة دوما إلى الجوهر الإنساني في كليته وشموله. فالتلوين ينقذ الشكل من بعض الصرامة، والألوان بتداعياتها المختلفة تحقق تتابعا من الأضواء والظلال، يثري بنية اللوحة، ويجعلها مفتوحة بحيوية على الخارج والداخل معا. أيضا ينعكس ذلك على طبيعة الإيقاع فيثري تحولاته الدائرية والمثلثة والهرمية، ويكسبه بعدا صرحيا مشربا بروح البطولة.

وتنويعا على هذا المشهد حرص نوار على أن يعيد تكوينه بإيقاع آخر عبر عمل مركب من أعمال التجهيز في الفراغ، يستعيد به بشاعة الحرب، في ثلاث حركات مجسمة، تتناثر في الأولى أعضاء مبتورة لأبطال وضحايا، بعضها ملقى على الأرض، وأخرى تجلس فوق كراسي متحركة، تحاول أن تدفعها في اتجاهات شتى، وفي الثانية تنير شموع خافتة مجسما من مستطيلات صغيرة، مدهونة أرضيتها باللون الأسود الداكن، وكأنها صلاة صامتة على أرواح الشهداء، بينما يرفرف العلم خفاقا في الحركة الثالثة على تلة افتراضية، في دلالة على تحقق لحظة النصر. وتتكثف الحالة البصرية عبر خليط من الموسيقى المنسابة، والإضاءة المنعكسة على مرايا الجدران، وكذلك حالة الرهبة والتشوق عبر الممر الضيق الأسود الذي يتشابك كجسر حي مع اللحن الأساسي للمعرض في القاعة الرئيسة، إمعانا في إبهام النظر بوجود العمق وتسطيحه في الوقت نفسه على مسطح المجسمات حتى إننا نكاد نصطدم جسدا وروحا بمعنى آخر لملحمة العبور، مرادف للحرية والجمال.

لقد نجح نوار في خلق علاقة خفية، شديدة الذكاء الفني، بين التركيب المتعمد الظاهر في هذا العمل، وبين دلالته وتجلياته على المستوى النفسي، فبدا كقناع لموضوع شائك مفتوح على البدايات والنهايات.