متحف غرونوبل يلغي الحدود والفوارق بين الدول

باستضافة ثلاثة فنانين من الكاميرون وزيمبابوي وأميركا

من أعمال اليكس كيتز
TT

يبدو المعرض الجماعي الذي يقيمه متحف غرونوبل لثلاثة فنانين عالميين: ألكس كيتز (الولايات المتحدة)، دونكان ويللي (زيمبابوي)، غريغوري فورستنر (الكاميرون) كأنه يجمع القارات لاغياً الحدود التي تتبادر إلى الذهن حتى لو كانت غير موجودة سوى بين القاعات الكبيرة التي تعرض فيها الأعمال. فالحدود الموجودة في هذا المعرض الجماعي تؤطر للجمع بين أجيال الفنانين وتظهر الاختلاف في التقنيات الفنية التي يستعملها الفنان في عقله وطريقة رؤيته للون والشكل، إذ يكمن الفارق الوحيد في هذا المعرض في اختلاف المدارس الفنية التي جاء كل فنان منها، مع الرابط الوحيد بين الثلاثة الذي يقربهم من بعضهم البعض وهو القرب كثيراً من تحويل اللوحة إلى ما يشبه الصورة الفوتوغرافية، خاصة حين النظر إلى العمل من على بعدِ أمتار قليلة، بحيث لا تظهر تموجات الألوان وضربات الفرشاة بشكل جليّ. هنا، أيضاً، تلغى الفوارق الزمنية والانتماء إلى الأجيال والمدارس، فلا الفارق في الاحتراف يظهر ولا الفارق الحدودي السياسي يمكن أن يصنع اختلافا كبيراً سوى في ذهنية المتلقي وحده. والحق أن الخط البياني للأعمال المعروضة، وأغلبها جداريات كبيرة، ليس فقط الموضوع الذي يأخذ لدى كل فنان حيزاً مكانياً ووجودياً مهماً من متن اللوحة، وإنما القدرات اللونية عند كل واحد منهم. ففي حين يعتبر كيتز الأكثر موهبة في رسم الوجوه من خلال التوصل إلى درجة لون الوجه البشري بدقة متناهية في بعض اللوحات وتحويله إلى مادة خصبة لابتكار ألوان تدخل إلى الحيز النفسي الذي يختزنه كل وجه من الوجوه التي رسمها للسيدة Elda إلدا، التي على الأغلب هي زوجته، إن في تبدل الضوء من لوحة إلى أخرى أو حتى في تغيير اللباس الذي ترتديه ما يدخلنا هنا إلى الزمن الذي يتبدل المظهر فيه بتبدل الشكل الخارجي للأناقة وتحول الشكل البشري خارجيا وداخلياً بتغير الزمن وتقدمه. كأننا والحال أمام لوحات كيتز واقفين نرى بعين متخدرة زمن السيدة إلدا وهو يمشي كعقارب الساعة إلى الأمام ميمماً شطر وجه السيدة نفسها نحو التآخي مع تسارع الزمن أو بطئه في مراحل حياتها، هذا بالطبع إذا شددنا الانتباه إلى أن الفارق الزمني بين لوحات السيدة إلدا يبلغ بين الأولى والأخيرة نحو نصف قرن من الزمن. في وقت يمكن الانتباه إلى أن لوحات فورستنر ليست سوى رؤية تهكمية إلى ما يسمى عالم الصالونات الأرستقراطية الرغيد، إذ يتحول سكان الصالونات إلى أناس لا يتبدل شكلهم مع تقادم الزمن، وإنما تتغير أشكالهم من دون أن يمشي الزمن أي خطوة، إلا إذا اعتبرنا أن يد فورستنر وريشته تدخل إلى العمق لتظهره شكلا، فما يبدو لنا أنه عالم الصالونات، ليس سوى أمكنة لأشخاص يلبسون ربطات العنق ويتجملون ويظهرون في أجمل حلة فيما هم في الحقيقة كلابٌ تلبس الأقنعة. زمن فرستنر لا يظهر كثيرا في وجوه حيواناته الأليفة بل ما يظهر جلياً عدم تبدل شكل الصالونات ما يحيلنا إلى عالم لا تظهر منه سوى نتفٌ قليلة إلى العلن. وكأن عالم الصالونات عالم عدمي تبهرجه كثافة ألوانه في حين أن الفراغ يسكنه أبداً. في المقلب الآخر، يبدو دونكان ويللي وكأنه يؤرخ لعلامات من الزمن المعاصر من خلال اهتمام مخلص لبنائية مشهدية كوارثية. يحضر هنا الزمن متوقفاً عن الحركة، جامداً، مثلجاً، ساكناً. لحظات السكون الأبدية التي تسيطر على مشهد الزمن المتوقف بعد مشاهد الحياة الآفلة بعد الدمار قضى على كل شيء. يحضر فن العمارة المتهدم. لوحات ويللي ليست سوى صور واقعية لما يحصل أو حصل فعلاً. مشهد حضارة متهدمة، يسهل تهديمها كما لو أنها صنعت من كرتون مقوى يصارع من أجل البقاء، كمثل لوحة تتوسطها جرافة تحول البيوت إلى حطام مكوم كجثة ثور في حلبة إسبانية. بيوت أكلها الدمار فحوّل مشهدها المندمج مع حضارتها إلى ركام وأطلال مشهدية ضخمة. هذه اللوحات لم ترسم اعتباطا، فقط شاهد ويللي الدمار بأم العين من خلال رحلته إلى قطاع غزة في عام 2005 وعلى الأرجح، فإن حجم اللوحات، ومعظمها جداريات ضخمة لا يمكن استيعابها سوى متاحف، مؤشر إلى الهدف منها، وضع حضارة كاملة في متحف في براد للموتى للحفاظ على شكل تهدمها الدراماتيكي. ما يلفت كثيراً في أعمال ويللي قدرته التقنية على استعمال الزيت وتحويله إلى ما يقترب كثيراً من الصورة الفوتوغرافية بحق وعن جدارة يقل مثيلها بين أبناء جيله. يجمع هذا المعرض جيلين مختلفين في الرؤى والمفاهيم والتقنيات، وحتى النظر إلى الأشياء من خلال الفن التشكيلي الذي هو أداة طيعة في بعض الأوقات لعكس الواقع. هو معرض ينشئ ما يشبه الخلية الجينية لأجيال من الفنانين جاءوا من أماكن وأزمنة مختلفة لعرض أحلامهم ورؤيتهم ونجحوا على الأقل في توصيلها إلى الناس.