جان ماري لوكليزيو يصل على ظهر سفينة «عوليس» ويستنهض بيروت

حامل نوبل للآداب لعام 2008: لبنان نموذج لو نجح سينقذ أوروبا

لوكليزيو في معرض الكتاب الفرنسي (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

احتفاء كبير حظي به جان ماري غوستاف لوكليزيو، حائز جائزة نوبل للآداب عام 2008، إثر وصوله إلى «معرض الكتاب الفرنسي» في بيروت يوم أول من أمس، حيث أحيا لقاء جمعه بمحبيه وقرائه اللبنانيين. استُقبل صاحب نوبل بالتصفيق من حضور ملأ القاعة وافترش الأرض بعد أن ضاقت الأمكنة، ليشاهد مع الحاضرين عرضا فنيا مستوحى من كتابه «المجهول على الأرض» قدمه شبان، أرادوا تحيته على طريقتهم. واعتلى، بعد ذلك، لوكليزيو المنصة ليجيب عن أسئلة الروائي ألكسندر نجار الذي حرص على حوار هادئ، رصين، يعرّف القراء بالأديب الذي أحبوه، من خلال كتاباته قبل أن يلتقوه.

لوكليزيو الخَفِر، المتواضع، الذي ربما لا يرى في نوبل ما يستحق منه تغيير سلوكه، شارك في أكثر من نشاط في هذا المعرض. فقد تحمل عناء الانتقال إلى لبنان في سفينة «عوليس» التي انطلقت من مالطا في السابع من الشهر الجاري، وجابت عدة مدن متوسطية، في رسالة سلام ومحبة، قبل أن تصل إلى قبرص ومنها إلى بيروت، ليشارك الأدباء الآتين على متنها، في احتفاليات هذا المعرض. لوكليزيو الذي التقى جمهوره اللبناني المرة الأولى في لقاء افتتاحي للمعرض يوم الخميس الماضي، عاد وشارك في لقاء في مدينة طرابلس أمس (الاثنين) جمع كتابا فرانكفونيين. أما اللقاء الأكبر فهو الذي أقيم تحية له في بيروت مساء الأحد الماضي، وأجاب خلاله عن أسئلة حول حياته، طفولته، ترحاله، ومن ثم رؤيته للطبيعة والعالم.

لوكليزيو المتحدر من أب أنجلوفوني وأم فرنسية اللغة، لم تدوخه نوبل، وقال إنه فخور بجنسيته الموريسيه أكثر من أي جنسية أخرى، وأنه استغنى عن جواز السفر البريطاني الذي سعى إليه في البدء تأثرا بثقافة أبيه، بعد أن اكتشف عليه «حرف C» الذي يجعل منه مواطنا من الدرجة الثانية.

وأضاف لوكليزيو «على الأقل فإنن الموريسيين لم يستعمروا أحدا ولم يسيئوا إلى أي شعب». وتحدث صاحب نوبل المولود عام 1940 عن طفولته أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة نيس الفرنسية، حيث عاشت عائلته مقطوعة معزولة عن العالم المحيط بها، لأن جذورها موريسية وليست فرنسية الأصل. وكل غريب لم يكن مقبولا في تلك الفترة. وبلهجة مؤثرة قال إنه لربما أصبح كاتبا بفضل الحرب. «لا أزال أذكر الانفجارات التي حصلت بقرب منزلنا، لذلك أفكر دائما بالأطفال حين أسمع عن الحروب». عرف لوكليزيو كما قال، طعم «البونبون» و«الشوكولاته» أول مرة بعد دخول الأميركيين إلى فرنسا، وتوزيعهم المعونات على السكان. «لم نحرم من الطعام يومها لأن المواد الغذائية كانت مقطوعة، لكن أبي الذي كان طبيبا، ربما فضّل في ذلك الوقت حياته المغامِرة، وخدماته الإنسانية لشعوب أفريقيا على أن يعتني بنا، فتركنا من أجل أهدافه الإنسانية، وكنا بدون مدخول». الأب الذي ترك عائلته من أجل السفر والترحال، يبدو أنه ترك بصمات لا تمحى على شخصية لوكليزيو، وقد أصبح مسافرا لا يتعب ولا يكلّ، ومن وحي ترحاله كتب أجمل رواياته. عرف المكسيك باكرا ومن ثم أميركا الجنوبية وكوريا ودولا عديدة أخرى. غالبا ـ على ما يشرح لوكليزيو ـ كان الرزق يناديه هنا وهناك، لكن شعبا لم يؤثر فيه أو يأسره كما هنود بنما. هناك عاش ثلاث سنوات، محاولا أن يندمج في مجتمع، لا سلطة فيه أو سطوة لأحد على أحد. «الناس هناك، متحررون، من كل سلطة نعرفها في مجتمعاتنا بما فيها سلطة الدين». لكنه يشرح بأنه فشل في أن ينخرط ويبقى يعامل كغريب بينهم، راضيا، متفهما، إلى أن نصحه أحدهم بالعودة إلى حياته وناسه. يقول لوكليزيو «لم أشعر بأي حاجة للكتابة خلال تلك الفترة. فالحياة من الانسجام والتناغم بحيث لم أشعر بتلك الحاجة التي عادت إليّ بمجرد مغادرتهم. لقد أعطوني كثيرا خلال ثلاث سنوات، لكنني للأسف لم أتمكن من إعطائهم أي شيء في المقابل».

تحدث لوكليزيو عن عشقه للطبيعة، إعجابه الشديد بمدينة جبيل اللبنانية التي كان قد زارها خلال النهار، وعن الطبيعة الخلابة التي اكتشفها في بيت الدين. ولمّح من دون تصريح إلى ازدحام السير في بيروت، وغياب المساحات الخضراء. ورأى أن ثمة شبها بين سيول وبيروت، من حيث الدمار الذي ألحقته بها الحرب، وعودة الحياة إليها بفضل الأمل وحب الحياة، إلا أن سيول يعيش ناسها كثيرا تحت الأرض.

وعاد لوكليزيو ليتكلم عن «جزر موريس»، بلده الأصلي، قائلا إن مشكلة نشبت ذات يوم بين أهالي الجزيرة بسبب الاختلافات الثقافية والدينية، وبدأ العنف، فكان رئيس البلاد من الجرأة بحيث إنه نزل بطائرة هليكوبتر وقال لهم «نحن في جزيرة، إن بقيتم تتقاتلون هكذا سنفنى جميعا. اشبكوا أيديكم بأيدي بعضكم وتوقفوا عن التقاتل». وهذا ما حدث، وهذا ما يجب أن يحدث في لبنان. وفي رأي لوكليزيو، صحيح أن المشكلات لم تحل جذريا هناك، لكن تلك الواقعة مهمة. لبنان ليس جزيرة، لكنه كالجزيرة في هذا الشرق. واستفاض هذا الكاتب الممتلئ حساسية في الكلام عن لبنان معتبرا إياه نموذجا ليس للشرق وحده وإنما للغرب أيضا. وقال بلهجة قاطعة «نجاح النموذج اللبناني التعددي، سيساعد أوروبا، وسيكون مفتاحا لمشكلاتها. ثمة مشكلات مع المهاجرين في فرنسا. والأمر في بريطانيا ليس أحسن حالا. لبنان لو نجح بمقدوره أن يعطي حلولا لأوروبا كي تتنفس وترتاح. ربما كنت متفائلا، لكنني أرى المفتاح هنا في لبنان، الذي يستطيع أن يلهم الأوروبيين ويساعدهم». ووسط دهشة الحاضرين أضاف لوكليزيو «لبنان جزء أوروبي، ويجب التوجه إليه على أنه جزء من أوروبا، لا بل يجب أن يصبح جزءا من الاتحاد الأوروبي».

ما بين رومانسية الروائي، وقدرته على استشراف المستقبل عن بُعد، تدفق حديث لوكليزيو شفافا، صافيا، وكأن في صوت هذا الرجل اصطخاب البحر، وصمت الصحراء البليغ، تلك الصحراء التي عشقها واكتسب الكثير من سعة أفقها.