عندما تتحول الآثار إلى لعبة سياسية

الصراعات طويلة المدى تحيا أو تموت في ظل عالم يكتنفه الغموض الأخلاقي

هناك الكثير من الحجج التي تؤيد إعادة القطع الأثرية المأخوذة من مصر إلى مصر أو المأخوذة من اليونان إلى اليونان أو من إيطاليا إلى إيطاليا («نيويورك تايمز»)
TT

في الوقت الذي اصطف فيه الآلاف لاختلاس نظرة لتمثال نفرتيتي في متحف «برلين الجديد» الذي أعيد افتتاحه حديثا، نشبت معركة ثقافية جديدة؛ حيث أعلن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية، زاهي حواس، أن بلاده ترغب في استعادة رأس الملكة على الفور، ما لم تكن ألمانيا لديها دليل على أن التمثال الذي يبلغ عمره 3500 عاما لزوجة إخناتون قد خرج من مصر قبل قرن بطريقة مشروعة.

وقد قال حواس لـ«شبيغل أون لاين»: «نحن لا نسعى وراء الكنوز، فإذا ثبت أن ذلك الأثر لم يسرق، فلا توجد مشكلة». ثم قال إنه على يقين من أن ذلك التمثال قد سرق.

فمن الواضح أن العولمة قد عززت الاختلافات الثقافية بدلا من أن تعمل على إزالتها بين الأمم. حيث تلجأ قوى القومية لاستغلال الثقافة نظرا للرمزية التي تحملها ولفعاليتها على المستوى الاقتصادي، ولأنها تعمل على تعزيز السياسات القائمة على الهوية في سياق يميل إلى تحريض اليهودي ضد العربي. وقد أطلق حواس رصاصة أخرى في فرنسا؛ عندما طالب متحف اللوفر بإعادة خمس لوحات من الجص كانت قد اشتراها في عامي 2000، و2003 من أحد المعارض ومن مزاد. وتنتمي تلك القطع إلى مقبرة عمرها 3200 عام بالقرب من الأقصر وكانت مخزنة في المتحف.

جدير بالذكر، أن مصر كانت قد طالبت قبل ذلك باسترداد تلك القطع ولكنها علقت في هذه المرة عمليات التنقيب عن الآثار التي يقوم بها متحف اللوفر منذ مدة طويلة في سقارة بالقرب من القاهرة، وقالت إنها سوف تتوقف عن التعاون مع معارض اللوفر. وقد استوعبت فرنسا الرسالة ووعدت بإرسال تلك القطع الأثرية على الفور.

ولم يخف على باريس، برلين أو حتى القاهرة، أن حواس قد مارس ضغوطا حول رأس نفرتيتي وعلق عمليات التنقيب عن الآثار التي كان متحف اللوفر يقوم بها بعدما فقد وزير الثقافة المصري فاروق حسني منصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، حيث ذهب المنصب في أواخر الشهر الماضي إلى الدبلوماسية البلغارية بدلا من حسني الذي كان سوف يكون أول وزير عربي يصل إلى ذلك المنصب، بالإضافة إلى أن حسني مبارك كان يلقي بثقله كي يحصل الوزير على ذلك المنصب.

ولكن جماعات الضغط اليهودية والنخبة الفرنسية والألمانية (وليس الحكومة الإسرائيلية) احتشدوا ضد حسني؛ الذي قيل إنه عندما سئل في البرلمان المصري خلال العام الماضي حول وجود كتب إسرائيلية في مكتبة الإسكندرية قال: «فلنحرق تلك الكتب. إذا كانت هناك أي كتب إسرائيلية، فسأحرقها بنفسي أمامكم».

وهو ما جعل إلي ويسيل وكلود لانزمان وبرنارد هنري ليفي يؤكدون في صحيفة «لوموند» أن هذا هو سبب عدم اختياره، بالإضافة إلى اتهامه أنه أدلى بتصريح آخر عام 2001 قال فيه: «إن الثقافة الإسرائيلية ثقافة غير إنسانية مؤسسة على السرقة».

وبعدما أعرب حسني لنفس الصحيفة الفرنسية عن اعتذاره عن تلك التعليقات قائلا: «ليس هناك ما هو أبعد بالنسبة لي من العنصرية، إقصاء الآخر أو الرغبة في إهانة الثقافة اليهودية أو غيرها من الثقافات». وبعد إعلان النتيجة وفشله في الحصول على المنصب، قيل إنه ألقى باللوم على المؤامرات التي حيكت ضده؛ مؤكدا لإحدى الصحف المصرية الأسبوعية: «لقد كانت المؤامرة أكبر مما تتصورون».

على أية حال، فبعد عدة أيام من قرار اليونسكو، بدأ حواس في ملاحقة فرنسا وألمانيا. وعندما سئل حول اختياره للتوقيت، أصر على أنه لا توجد أي صلة بين قراره وقرار اليونسكو؛ قائلا إنه كان قد طلب من الفرنسيين إعادة القطع الأثرية قبل شهرين. ولكن ذلك كان عندما بدأت حملة حسني تخفق بالفعل.

ومن جهة أخرى، نفى حواس أن يكون إعلانه المفاجئ في أواخر أغسطس (آب) عن أعمال الترميم في المعبد اليهودي المصري كانت لها علاقة بترشيح حسني. ولكن كان واضحا تماما أن تلك القرارات كانت ضمن الجهود المبذولة لكسب تأييد المعارضة اليهودية المتنامية للوزير.

يذكر أن مصر كانت تحاول من وقت لآخر استعادة تمثال نفرتيتي، وذلك في ظل مناخ سياسي موات. ولكن الألمان كانوا يؤدون أن لودفيغ بورشاردت عالم المصريات الذي اكتشف نفرتيتي في تل العمارنة في عام 1912 كان قد حصل على الموافقة المصرية لاصطحابها إلى برلين. وقبل عدة أيام، كرر العراق طلبه بأن تعيد ألمانيا بوابة عشتار، وهي أحد بوابات مدينة بابل القديمة التي تم اكتشافها وشحنها إلى برلين قبل الحرب العالمية الأولى.

وفي حالة العراق، يبدو أن الحكومة كانت تراهن على أن مواقف ألمانيا الملتبسة من الحرب الحالية ربما تساعد على تغيير الرأي الشعبي السائد هنا والمتعلق بإعادة البوابة، تماما مثلما حدث مع نظام صدام حسين الذي استخدم كارت إعادة الأسرى في عام 2002 كخطوة تكتيكية في التفاوض مع الأمم المتحدة حول السماح بدخول مفتشي الأسلحة إلى البلاد.

ويبدو أن سلاح الآثار يمس المشاعر الشعبية، والكبرياء القومي. وبالرغم من أن الوسط الفني يفضل التفكير في مسألة الأكثر استحقاقا أو معضلة أن نرى الفن الذي نشأ في مكان ما يعرض في مكان آخر أو للظلم الذي نجم عن قرون من جمع الإمبرياليين لتلك الآثار، فإن السبب الحقيقي وراء المزاعم المصرية ـ وكما هو الحال في العديد من الحالات الأخرى ـ له علاقة بالقومية.

وبالرغم من أن القوانين تغيرت بمرور العقود أو القرون، وارتحل السكان من أماكنهم إلى أماكن أخرى، وانهارت إمبراطوريات ونشأت غيرها، ولم تعد الحجج القانونية مؤكدة، فإن القانون هو القانون، ولا يمكن بأية حال إجازة عمليات النهب. ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن الصراعات طويلة المدى تحيا أو تموت في ظل عالم للعلاقات الدولية الذي يكتنفه الغموض الأخلاقي؛ مما يعني أن الحكومات الحديثة مثل مصر والعراق ربما تحصل على تعاطف العالم الغربي في الوقت الراهن، نظرا لما يكتنفه من شعور بالذنب جراء استعمارهم لتلك البلدان مما يفيد تلك الدول عندما مطالبتها باستعادة القطع الفنية التي أخذت من المواقع القديمة الموجودة عند تخومها.

وفي نفس الوقت، لا توجد مطالبات صارخة لروسيا بإعادة الكنوز التي سرقتها من ألمانيا في نهاية الحرب، ولا توجد مطالب قوية بأن تسلم السويد غنائم الحرب التي حصلت عليها قبل 350 عاما مضت من الدنمارك. فالأمر يتعلق بالمشاعر، وليس بالمنطق المتماسك أو السياسات المنضبطة؛ فأهواء التوسع، والإحساس المضطرب بالعدالة يساهمان في تحديد مثل تلك المواقف. ولا يجب أن يبدو ذلك تشاؤميا. فهناك العديد من الحجج سواء القانونية، الأخلاقية، الثقافية، الاقتصادية أو الفنية التي تؤيد إعادة تلك القطع الأثرية المأخوذة من مصر إلى مصر أو المأخوذة من اليونان إلى اليونان أو من إيطاليا إلى إيطاليا. كما أن هناك العديد من الأشخاص الذين يؤيدون عكس ذلك: أي يؤيدون انتشار تلك القطع الأثرية في جميع أنحاء العالم، حيث تقوم تلك القطع الأثرية بدور الدبلوماسي، وهو ما يفيد ليس فقط الأشخاص الذين يقطنون تلك الأراضي.

وربما يصبح لاستعادة رأس نفرتيتي في هذا السياق أهمية خاصة؛ وربما يتم إعادته في ذلك السياق. وفي كل الأحوال فقد أصبح الفن ككرة قدم. إنها القومية بأشكال أخرى. أو السياسة بالإنابة.

*خدمة «نيويورك تايمز»