متحف فلسطيني يوثق تاريخ الحركة الأسيرة ويحتفظ بآلاف الصور والوثائق التاريخية

فيه تشاهد «الكبسولة» التي كانت طريقة الاتصال الوحيدة بالعالم الخارجي

الكبسولة التي كان يبتلعها الأسير وبداخلها رسالة
TT

يقول الفلسطينيون إن يسوع المسيح عليه السلام، كان الأسير الفلسطيني الأول، وهذا ما يظهره طريق رمزي لدرب الآلام الذي سار عليه المسيح، بني خصيصا على باب متحف «أبو جهاد» لشؤون الحركة الأسيرة في الضفة الغربية الذي يحاول أن يختصر معاناة عشرات السنين من الاعتقال في السجون الإسرائيلية.

وقال فهد أبو الحاج، مدير المتحف، ونحن نسير على جسر من حجارة أحضرت من القدس وسط حقل صبار صغير: «هذا هو طريق الآلام الذي سار عليه السيد المسيح. هذا طريقنا الطويل».

وصمم المتحف الذي بني على مدخل جامعة القدس في أبو ديس، بعناية فائقة ليبدو مثل أي سجن إسرائيلي، محاط بالأسلاك الشائكة، والبوابات الحديدية، وبعض الجدران العالية، والكتل الأسمنتية، وبعض الأشجار المعمرة.

وأراد القائمون على المتحف، لزواره، أن يطلوا جيدا على تاريخ طويل من معاناة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وهذا يفسر أننا اضطرنا للمرور بعد عبور طريق الآلام، عبر بوابة دوارة ضيقة، يسميها الفلسطينيون «المعاطة»، نسبة إلى آلة تتخلص من ريش الدجاج.

ويمجد المتحف المكون عن 3 طوابق، قصصا من «البطولة» اليومية في مواجهة السجان الإسرائيلي. وقد تم طلاء الواجهة الخارجية للمتحف باللونين الأحمر والأخضر، في إشارة إلى الدم والحرية. تبدأ زيارتنا للمتحف بممر ضيق، يشبه، كما قال أبو الحاج، «المعبار» وهي منطقة مظلمة يضطر المعتقلون الفلسطينيون لعبورها عند نقلهم من السجون إلى المحاكم الإسرائيلية، التي كانوا ينتظرون فيها لساعات طويلة «مذلة» حسب تعبير أبو الحاج.

أبو الحاج جرب السجن لمدة عشر سنوات، وقال إنه تعلم داخل سجنه أكثر بكثير مما علمته الحياة. يحتفظ المتحف بآلاف من الرسائل والوثائق والمخطوطات والكتب والروايات واللوحات التي تنتشر على جدران المكان، أو تم حفظها في مكتبة ضخمة، ويمكن فيه مشاهدة خارطة فلسطين التاريخية، وهي تظهر مواقع وأسماء 27 سجنا إسرائيليا منتشرة بطول الوطن وعرضه. ومن بين أهم الوثائق التي يتوقف عندها الزوار، برواز كبير يشرح بعدة لغات 76 أسلوب تعذيب يتبعه السجانون الإسرائيليون ضد المعتقلين.

وعلى الرغم من أن المتحف يركز أكثر على تاريخ الحركة الأسيرة المعاصرة منذ انطلاق الثورة الفلسطينية، فإنه لم يغفل حوادث مهمة وقعت إبان الانتداب البريطاني، خاصة حادثة إعدام كل من عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، وعلى أحد الجدران علقت وصية حجازي بخط كبير.

وتعمد القائمون على المتحف إظهار حبل مشنقة في مكعب زجاج كبير، وضع قرب حائط كبير يضم 228 صورة لأسرى قضوا داخل السجون، وصورا أخرى تظهر أسرى فلسطينيين لحظة اعتقالهم أحياء، وكيف أعدموا لاحقا، وقد وثق المركز ذلك بتقارير لصحف إسرائيلية أشارت إلى إعدام البعض، وقال أبو الحاج «من فمهم ندينهم».

ويسلط المتحف الضوء على إحصاءات لاعتقال الأطفال، مرفقة بنصوص قانونية تجرم ذلك، وصور أخرى للأسيرات، وإلى الأعلى كتب بخط أحمر جميل: «يا دامي العينيين والكفين إن الليل زائل».

وتعتقل إسرائيل الآن نحو 11 ألف أسير في ظروف مختلفة، ويحرض المتحف على المواجهة، عبر صور تجمع «أدوات الشعب» في مواجهة المحتل، وصور أخرى حية للمعتقلين داخل سجونهم. وتختلف ظروف الاعتقال من سجن لآخر، ويمكن الآن إجراء مكالمات من داخل بعض السجون إلى الخارج، عبر جوالات مهربة.

أما في سنوات سابقة فكانت «الكبسولة» وسيلة الاتصال الوحيدة، ويعرض المتحف عشرات الرسائل المكتوبة بخط صغير على قصاصات صغيرة، بالكاد تقرأ، كانت توضع داخل كبسولة يبتلعها الأسير المحرر قبل الإفراج عنه، ومن ثم يستخرجها بعد إطلاق سراحه عبر قضاء حاجته، وينقلها إلى الجهة المعنية. وقال الصحافي كريم عساكرة، الذي يزور المركز لأول مرة: «لقد أثار لدي ذكريات قديمة، وجملية».

ويعرض المركز رسالة أخرى هربت على قماشة بنطال من الداخل، وقد بدا بعض الزوار مندهشين، فتلك معلومات يعرفونها لأول مرة. ابتسم أبو الحاج الذي بدا فخورا بمتحفه، وهو يشير إلى راديو صغير أصفر اللون، وقال: «هذا أول راديو دخل إلى المعتقلات عام 1984، بعد نضال طويل». ومن بين الأشياء التي يعرضها المركز مشغولات للأسرى، مثل قبة الصخرة وحقائب وآلات موسيقية وهدايا مختلفة. ويحتفظ القائمون على المركز بقاعدة بيانات ضخمة، وقد استفاد منها صحافيون وكتاب وطلاب علم، وتدرس جامعة القدس نفسها مساقا عن الحركة الأسيرة.

ويضم هذا القسم مكتبة إلكترونية وأرشيفا ورقيا فيه أكثر من 6 آلاف وثيقة، بعضها عبارة عن لوائح وأنظمة داخلية تخص المعتقلين، ورسائل ومؤلفات وكتب وأشعار وروايات ولوحات فنية كتبت داخل السجون، فيما يعرف بـ«أدب السجون». وقال أبو الحاج: «كل قطعة في هذا المركز كأنها ولد من أولادي، قد جمعتها قطعة قطعة».

وتكلف بناء المتحف بداية نحو 525000 يورو، قدمتها دولة الكويت والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي، ولا يزال العمل فيه مستمرا، ويعمل مهندسون وفنيون على بناء زنزانة، تحاكي بشكل مفصل الزنازين الحقيقية.

وشاهدنا أسفل المبنى فسحة معتمة لا تتسع للنوم، مغلقة بباب حديدي ثقيل، فيه فتحة صغيرة لتمرير الطعام. وقال أبو الحاج وهو يقف داخل الزنزانة: «إن مجرد وقوفي هنا يعني أن عتمة هذا الليل زائلة».